ــ طرح المشكلة :
يقول المعلم الأول "أرسطو طاليس" : "الإنسان كائن عاقل"’ وهذا معناه أنه يستخدم عقله لممارسة فن التفكير الصحيح الذي لا يشوبه تناقض، والقائم على مبادئ و أحكام صادقة صدقا صوريا (عقليا)، لذلك فإن اتفاق الفكر مع نفسه، وانطباقه مع ذاته هو مجال فكري يهتم به المنطق الصوري الذي يعرف بأنه: "علم دراسة قوانين الفكر الضرورية، و القواعد التي يجب عليه الالتزام بها حتى لا يتناقض الفكر في أحكامه واستدلالاته، ولكي يفرق بين الصدق والكذب"، ولقد أثارت مشكلة "قيمة وأهمية المنطق الصوري" جدلا وتناقضا بين الفلاسفة والمفكرين، فهناك من يرى أن مبادئ المنطق الأرسطي كافية لعدم وقوع العقل في التناقضات (قيمته ايجابية)، ونقيضا لذلك هناك من يؤكد أن قواعد المنطق الصوري لا تعصم الذهن من الوقوع في المغالطات (قيمته سلبية)، ومنه نطرح المشكلة ونقول: إلى أي مدى يمكن القول أن مبادئ وقواعد المنطق الصوري تعصم العقل من الوقوع في المغالطات؟ وبصيغة أخرى: هل اتفاق الفكر مع نفسه شرط كاف لعدم وقوع العقل في الأخطاء والتناقضات؟
ــ محاولة حل المشكلة :
يؤكد أنصار الموقف الأول وهم مناصري المنطق الصوري أمثال (أرسطو – أبو حامد الغزالي – ليبنتز – كانط) أن مبادئ وقواعد المنطق الصوري تعصم الذهن من الوقوع في الأخطاء و التناقضات، بمعنى أن المنطق الأرسطي له قيمة إيجابية، أي أن انطباق الفكر مع نفسه يمثل النظرية النهائية التي تبين قواعد الإستدلال التي يجب إتباعها، والشروط التي يمكن من خلالها التمييز بين الصواب و الخطأ، وتجنب المغالطات، ومن هنا أعتبر المنطق عند "أرسطو" : "مقدمة للعلوم تساعد على التفكير السليم".
كما أن مبادئ العقل (مبدأ الهوية – عدم التناقض – الثالث المرفوع – الحتمية – السببية – الغائية) هدفها تنظيم تفكير العقل الإنساني لإبعاده عن التناقض والأخطاء والعشوائية، لهذا يقول "ليبنتز" :"إنها ضرورية [أي مبادئ الفكر] للتفكير كضرورة العضلات والأوتار العصبية للمشي"، لذلك يعتبر العديد من الفلاسفة المنطق الصور، وخاصة في العصور الوسطى (300 – 1400م) أصدق معيار يمكن الاستعانة به لدراسة العلوم، بل إنه أداة ذهنية يجب تحصيلها قبل البدء في البحث العلمي، لما امتاز به من دقة عقلية، وتنظيم محكم في بناء الإستدلال، خاصة الأشكال القياسية، وفحص المقدمات، و الابتعاد عن الميول والأهواء التي تشوش أحكام العقل، ويقول في هذا السياق "أبو حامد الغزالي" : "من لا يعرف المنطق لا يوثق في علمه"، مما يعني أن المنطق شرط كاف لعدم الوقوع في الأخطاء، وضمان العصمة من الخطأ في التفكير، وصحة البراهين دائما، وهذا ما جعل الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" يقول :"إن المنطق ولد تاما مع أرسطو".
إذن، فانطباق الفكر مع نفسه شرط كاف لضمان اتفاق العقول من جهة، وعدم وقوع الذهن في الأخطاء والتناقضات من جهة أخرى.
صحيح نسبيا ما أكده أنصار الموقف الأول، لأننا لا ننكر ما للفكر وانطباقه مع ذاته من مصداقية على مستوى التفكير و الأحكام والبرهنة... الخ، لكن يبقى المنطق الصوري اجتهاد بشري يعتريه النقص، ولا يرقى إلى الكمال و الانتهاء مهما كان فيه من إبداع أرسطي، وإذا كان المنطق الأرسطي"تاما وكاملا" كما اعتقد "كانط"، لماذا ظهر المنطق الرمزي، والمنطق المتعدد القيم، والمنطق الجدلي ...الخ؟، ألا يدل هذا على أنه ما من علم – بما فيه المنطق الصوري – يتأسس كاملا منذ البداية؟، والدليل على ذلك تطور علم المنطق ذاته منذ عصر "أرسطو"، وهذا يعني أن منطق "أرسطو" يحتوي على عيوب ونقائص و سلبيات ومؤاخذات، وهذا ما أكده "برتراند راسل" بقوله :" من أراد في عصرنا الحاضر أن يدرس المنطق، فوقته ضائع سدى لو قرأ لأرسطو أو لأحد تلاميذه"، كما أن المنطق الصوري لا يساير واقع الأحداث المتغير، بل إنه بعيد عن الواقع المادي – الطبيعي خاصة - ، فمثلا القضية التالية :" من جد وجد ومن زرع حصد" صحيحة و صادقة في الفكر، لكنها قد لا تتحقق على أرض الواقع، وهذا ما أكده "ابن خلدون" بقوله :"تطابق الفكر مع نفسه قد يؤدي إلى نتائج تتنافى [أي تتناقض] مع الواقع"، أضف إلى ذلك ما الفائدة من عدم وقوع الفكر في الأخطاء إذا كان المنطق الصوري لا يصل إلى نتائج واكتشافات علمية جديدة؟
وعلى النقيض يؤكد أنصار الموقف الثاني وهم معارضي المنطق الأرسطي أمثال (فرنسيس بيكون – ديكارت – غوبلو – جون ستيوارت مل) أن قواعد المنطق الصوري لا تعصم الذهن من الوقوع في الأخطاء و التناقضات، أي منطق "أرسطو" له قيمة سلبية، فالمنطق الأرسطي يعد منطقا شكليا (صوريا) يدرس التفكير فقط، لأنه مرتبط أكثر بالميتافيزيقيا، لذلك لم يهتم بمادة الفكر، و المتمثلة في الواقع وما يحتويه من ظواهر طبيعية، كما أن قواعده فكرية ثابتة عرقلت تطور البحث العلمي لمدة عشرين قرنا (400 ق م – 1600 م)، بل إنه منطق ثنائي قائم على قيمتي الصدق و الكذب فقط، أي أن قضاياه إما صادقة أو كاذبة، أضف إلى ذلك أنه منطق اعتمد على لغة الألفاظ والكلمات (اللغة الطبيعية) التي لها عدة معاني، وهذا ما يؤدي إلى الخطأ في النتائج أحيانا، أي أنه لم يعتمد على اللغة الرمزية الرياضية، وهذا ما أكده "ديكارت" بقوله :" القياس الصوري عقيم وغير منتج لأنه لا يستخدم الرموز الرياضية".
على هذا الأساس يمكن القول أن المنطق الأرسطي عقيم، ولا يصل بالفكر إلى نتائج جديدة خاصة في نظرية القياس، أي أنه يعتبر مصادرة على المطلوب، ويقول في هذا الشأن "غوبلو" : "المنطق الصوري تحصيل حاصل، أي عقيم وغير منتج"، أو كما يقول "جون ستيوارت مل" :" إنه من المؤكد تماما أن القياس يكون دائرا إذا كان في النتيجة شيء ما موجودا في المقدمات... وأن القياس في جميع صوره لا يعطينا شيئا جديدا، لأن النتيجة مفترضة أو معروفة من قبل". كما أن تأثير الفكر الفلسفي (تعدد المذاهب الفلسفية) على الأحكام المنطقية جعل المنطق و آلياته المختلفة وسيلة للتعبير عن فلسفة دون أخرى، فكل مذهب يدافع عن منطق يناسبه، ويعتبره هو الصواب، وهذا ما يؤدي إلى الأخطاء وانتشار المغالطات، زد على ذلك أن الإنسان ابن مجتمعه، فهو يتأثر بقيم (عادات – تقاليد – ثقافة... ) المجتمع، وهذا ما يجعله عرضة للأخطاء والتناقضات، ويقول في هذا السياق "جون ديوي" : " التربية أداة لنقل أهداف المجتمع ومعارفه من جيل إلى آخر".
رغم الانتقادات الموجهة لمنطق "أرسطو" وما كشفته عن عيوب ونقائص، إلا أنه لا يمكن للعقول البشرية أن تنكر ما للمنطق الصوري من أهمية وقيمة إيجابية، فهو يلعب دورا مهما في تدريب وتنمية الفكر، لأنه يهدف إلى وضع مختلف القواعد التي يستند إليها العقل في بناء تصوراته و أحكامه وبراهينه، بل إننا نفكر بمبادئ وقواعد المنطق الصوري من استدلالات وأشكال قياسية... الخ، وليس لنا منطق فكري آخر نفكر به، بل إن "أرسطو" ذاته حاول استخدام "منهج الرموز الحرفية"، لأنه رأى أن ذلك النقاء الصوري إنما يبلغ بالرمز الحرفي حين اتخذ حروف الهجاء الكبرى دلالة على حدود القضية القياسية، وهذا ما أكده مؤرخ الرياضيات العالم "بول تانري" بقوله :"عندما ندرس في أرسطو استعمال الرموز الحرفية للدلالة على موضوعات فكرية، فإننا سنقول حتما في أنفسنا أنه لم يبق بين اليونان وجبر "فيت" ((viète إلا بضع خطوات"، وهذا يدل على استعمال "أرسطو" للرمزية في منطقه – مع العلم بعدم صلاحية الرمز الأرسطي لتأسيس حساب منطقي مقارنة بالمنطق الرياضي – ولو نسبيا، ومتى كان للمنطق الأرسطي قيمة سلبية، وهو يعد القاعدة الرئيسية لأنواع المنطق الأخرى التي ظهرت بعده؟، هذه الأخيرة لم تعرف التأسيس إلا بعد كشفها لعيوب المنطق الصوري.
وتركيبا لهذا الجدل الفلسفي بين الموقفين (التوفيق بين الرأيين)، فإن المنطق الصوري له قيمتين، الأولى ايجابية مادام يعصم الذهن من الوقوع في الأخطاء والمغالطات، ويؤدي إلى التفكير الصحيح والسليم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، له قيمة سلبية لأننا حتى وإن طبقنا قواعد المنطق الأرسطي سنقع في الأخطاء، فالإلمام بآليات وقواعد المنطق لا يمنع الفكر من الوقوع في المغالطات و التناقضات، ومعنى هذا أن انطباق الفكر مع نفسه يضمن اتفاق جميع العقول بالنظر إلى قواعده الدقيقة، كما لا يضمن هذا الانطباق اتفاق كل العقول بالنظر إلى الحتميتين النفسية و الاجتماعية,وتعدد الفكر الفلسفي.
ومن وجهة نظري الشخصية (موقفي الذاتي)، فإن المنطق الصوري بقواعده و مبادئه يعصم العقل من الوقوع في المغالطات والتناقضات، ويضمن اتفاق جميع العقول، ودليلي على ذلك أن عملية الاستدلال والبرهنة تمثل انتقال الفكر من العام إلى الخاص (من الكل إلى الجزء)، وهذا هو المنهج الإستنتاجي، فمثلا القياس التالي يبين صحة البرهنة:
كل الألمان أذكياء.
ماكس بلانك ألماني .
إذن، ماكس بلانك ذكي .
على هذا الأساس يعد المنطق الأرسطي علما عقليا لأنه حدد للفكر مجموعة من المبادئ والقواعد التي يجب عليه الإلتزام بها أثناء التفكير، وخاصة مبدأ عدم التناقض، بحيث لا يمكن للعقل أن يثبت وينفي في نفس الوقت، أي لا يمكن القول أن القضية "المجتمعات تقدمت لأنها تقدس العمل" صادقة وكاذبة معا، فهذا لا يقبله العقل.
ــ حل المشكلة:
مما سبق تحليله نستنتج أن انطباق الفكر مع نفسه (المنطق الصوري) القائم على قواعد فكرية صارمة يمنع العقل من الوقوع في التناقضات شريطة أن يتم توظيفها في عملية التفكير، كما أنه من الممكن الوقوع في الأخطاء نظرا للحتميات المختلفة التي تؤثر على تفكير الفرد، ومع ذلك فقد حاول التأسيس لنظرية معرفية تعبر عن كيفية توجيه العقل نحو الصواب أثناء التفكير المنطقي بحيث لا يتناقض مع نفسه أثناء بناء تصوراته وأحكامه واستدلالته، ويقول في هذا السياق "ابن سيا" : "المنطق آلة تمنع الذهن من الوقوع في الزلل [الخطأ]"، أو كما يقول عالم الرياضيات الفرنسي "هنري بوانكاري" : "إننا...نبرهن بالمنطق".
ورغم الانتقادات التي تعرض منطق "أرسطو" إلا أنه يبقى ذو قيمة ايجابية، لأنه وضع للعقل "مخطط للتفكير"، وما وقوع الذهن في الأخطاء والمغالطات إلا وسببه توظيف قواعد المنطق وآلياته بطريقة خاطئة، وليس سببه قواعد المنطق في حد ذاتها، ومن يعتقد أنه يفكر بخلاف القواعد المنطقية، فتفكيره خاطئ و سلبي، بل إنه لا يعرف ما التفكير؟ وما هو فن التفكير؟