ــ طرح المشكلة:
إن التقدم و التطور الذي حققته الدراسة التجريبية، وما أحرزته من نجاح في علوم المادة الجامدة، جعل منها نموذجا لكل معرفة تسعى لتحقيق الدقة و الموضوعية، خاصة بعد اقتحام هذا المنهج التجريبي ميدان البيولوجيا وتذليل عقباتها، مما شجع على توسيع نطاق بحثه، وطرح إمكانية تطبيقه على ميدان آخر، هو عالم الظواهر الإنسانية و الإجتماعية التي تعد موضوعا للعلوم الإنسانية و الإجتماعية، هذه الأخيرة تعرف بأنها تهتم بدراسة الواقع الإنساني و الإجتماعي بحوادثه المختلفة النفسية و الإجتماعية التاريخية...الخ، لفهمه و تفسيره سببيا، وهذا ما أثار جدلا فكريا بين الفلاسفة و علماء الإنسانيات حول مشكلة "إمكانية تطبيق المنهج التجريبي في العلوم الإنسانية و الإجتماعية"، فهناك من يرى أن الظاهرة الإنسانية و الإجتماعية تخضع للدراسة التجريبية، ونقيضا لذلك هناك من يؤكد أن عوائق الظاهرة المشكلة ونقول: هل يمكننا أن نتحدث في مجال العلوم الإنسانية والإجتماعية عن منهج تجريبي يخلع (يضفي) على الظاهرة الإنسانية صفة العلمية و الموضوعية؟
وبصيغة أخرى: هل العلوم الإنسانية و الإجتماعية قادرة على تطبيق المنهج التجريبي على موضوعاتها؟
ــ محاولة حل المشكلة:
يؤكد أنصار الموقف الأول الذي يمثله العديد من الفلاسفة و علماء الإنسانيات أنه يمكن دراسة الظواهر الإنسانية و الإجتماعية دراسة علمية موضوعية، لأن تطور تقنيات المنهج التجريبي قد فتح المجال أمام العلوم الإنسانية و الإجتماعية، وقدرتها على استخدام المنهج التجريبي، وبالنظر إلى ظواهرها على أنها محكومة بقوالب و قوانين محددة، يتفاعل فيها الفرد و المجتمع سلوكيا، بل أكثر من هذا، هو محاولة صياغة القوانين رياضيا قصد التمكن من التنبؤ بمستقبل الظواهر الإنسانية و الإجتماعية. ففي ميدان "علم النفس" تؤكد مدرسة "علم النفس السلوكي" أن السلوك يمكن ملاحظته و قياسه، وهذا ما فعله "إيفان بافلوف" بواسطة المنعكس الشرطي، حيث تبين له أن السلوك ينحل إلى سلسلة من المنبهات التي تصاحبها ردود أفعال آلية، مما يتيح التنبؤ بالسلوك وفق (مبدأ الحتمية) وبالتالي صياغة القوانين.
وبمنهج الإنعكاسات الشرطية، وغير الشرطية، وبتجاربه على الإنسان حاول اكتشاف القوانين و الميكانيزمات الأساسية لنشاط الدماغ، كذلك تجارب "إدوارد ثورندايك" و خاصة "تجربة القطط" التي حاول فيها قياس "الذكاء الحيواني" انطلاقا من مثير و استجابة.
أما "جون واطسن" فقد أكد أن السلوك مثير واستجابة (س= م+ إ)، وهذا ما يجعل من علم النفس علما موضوعيا نستطيع أن نتنبأ بقوانينه إذا عرفنا مسبقا المنبه و رد الفعل، ومن هنا كان شعار "واطسن" المشهور :" إنني أريد أن أجعل من علم النفس علما، و لكن من غير نفس"، أي أن السيكولوجيا قائم على السلوك الملاحظ، و ليس على النفس الباطنية (الوعي أو العقل). وبالتالي، فالنظرية السلوكية بينت إمكانية ملاحظة السلوك من الخارج (احمرار الوجه- الإرتعاش...الخ) وهذا ما يسهل دراسته تجريبيا.
ومن دعاة المنهج التجريبي نجد أنصار نجد أنصار "علم النفس التكويني" بزعامة "جان بياجي" المهتم بدراسة نمو القوى النفسية على ضوء ما يحيط بها من مؤثرات فيزيولوجية واجتماعية، و أنصار "علم النفس الجشطالتي" بزعامة (فرتهايمر – كوفكا...الخ)، ومناصري "علم النفس الفيزيولوجي"... الخ، ويقول "بول فريس" وهو من أنصار "علم النفس الموضوعي" :
" ليس هناك ما يمنع – حقا أو واقعا – من قيام علم النفس العلمي الذي ثبت إمكان قيامه، و تأكدت صلاحيته"، وهذا ما تحقق فعلا في "ألمانيا" على يد عالم النفس التجريبي "فيلهلم فونت" الذي أسس "أول مختبر تجريبي في علم النفس" عام (1879)، ويقول "جون واطسن" :" إن علم النفس... فرع موضوعي و تجريبي محض من فروع العلوم الطبيعية، هدفه النظري التنبؤ بالسلوك و ضبطه".
كما أن النجاحات المعاصرة التي تحققت في مجال الدراسات المتعلقة بالظواهر النفسية القائمة على الملاحظة و التجربة المدعمة بالآلات و الوسائل العلمية دليل على إمكانية التجريب في الحادثة النفسية، فإنشاء المعامل (المختبرات) السيكولوجية في ألمانيا و الولايات المتحدة الأمريكية و روسيا و إنجلترا و فرنسا... إلخ، كانت نتيجة استعمال العلماء للقياس في إجراء الإختبارات الهادفة إلى تقدير قدرات الأفراد تقديرا كميا (عدديا) في مجالات الذاكرة و الإدراك و الذكاء (قانون حساب الذكاء هو: العمر العقلي / العمر الزمني × 100)..إلخ، و اعتماد التجريب النفسي القائم على الأسئلة (نظام الاستمارة) أو بعض الأعمال، أو حل بعض المسائل... إلخ، كما استخدموا " الإحصاء و القانون"، و"المنهج المقارن" بين الإنسان و الحيوان، بين الراشدين و غير الراشدين، بين الأسوياء و المنحرفين... إلخ، وهذا يعني أن علم النفس تحوّل إلى دراسة ظواهر نفسية من خلال السلوك و كبقية العلوم التجريبية الأخرى.
أما في ميدان "علم الإجتماع"، فإن فهم الظواهر الإجتماعية و دراستها تجريبيا، و تجاوز عقباتها قد ظهرت ملامحها بوضوح مع العلامة " ابن خلدون" مؤسس "علم العمران البشري" انطلاقا من استقراءه لأحداث عصره في شمال إفريقيا، لأنه شكّل دراسة اجتماعية بمنهجية علمية أدت إلى اكتشاف قوانين عامة تعدت نطاق عصره، فكما يقول "إيمانويل مونييه" عن مقدمة "ابن خلدون" : " إنها تقوم على الملاحظة التحليلية للحوادث، و الشرح و التعليل، مما يشهد له بذهنية موضوعية سبق بها عصره"، مما يعني أن "ابن خلدون" اعتمد على المنهج الإستقرائي في دراسته للواقع الإجتماعي، فكما يقول :"إن العلوم تكثر حين يكثر العمران"، وهذا معناه أن الصلة بين العلم و التقدم الإجتماعي هي صلة موضوعية، وبالتالي فثنائية "المعرفة والمجتمع" أصبحت قاعدة اجتماعية منذ "ابن خلدون".
كما يعتبر"أوجست كونت" من أهم علماء الإجتماع الذين حاولوا دراسة الظواهر الإجتماعية بطريقة وضعية، و موضوعية، و كتب يقول :"لنستكمل نسق معرفتنا بالطبيعة على أن ينظر إلى هذه الظواهر [أي الظواهر الإجتماعية] بنفس الروح التي ينظر بها إلى الظواهر الفلكية أو الطبيعية"، ولعل نظريته في تطور المجتمع الإنساني (قانون الحالات الثلاث) خير دليل على ذلك.
وقد دعم هذا التوجه العلمي "إميل دوركايم" الذي عمل على فهم حقيقة الظاهرة الإجتماعية، و دراستها تجريبيا من خلال تحديد خصائص الظاهرة الإجتماعية (تلقائية، جبرية، عامة، مستقلة) و أسبابها، واعتبارها "أشياء" قابلة للمنهج الإحصائي، وهنا يمكن ملاحظتها، ووضع الفروض لها، والتأكد بالتجربة من صحتها، و الوصول إلى صياغة قوانينها، كقانون "دوركايم" حول الانتحار الذي يقول :" أن الميل الشخصي إلى الانتحار يزداد مع قلة الروابط التي تربط الفرد بالمجتمع"، وقانون "وارد" الذي يقول :" إن الأفراد يبحثون على أكبر كسب بأقل مجهود"، وبالتالي يمكن دراسة الواقعة الإجتماعية دراسة علمية، ويقول "جميل صليبا" :" ينتج مما تقدم أن علم النفس و علم الإجتماع علمان وضعيان، و أن إتباع الطريقة العلمية فيهما واجب".
و في مجال علم "التاريخ" يمكن دراسة الحادثة التاريخية و فهمها من مقياس تجريبي انطلاقا من الآثار و المصادر (هياكل القصور و المساجد و الكنائس و المذكرات و المقالات الصحفية و المجلات اليومية و الأسبوعية، و المؤلفات الفكرية و الكتب التاريخية...إلخ) التي تعبر عنها، والبحث عن أسباب الحادثة التاريخية و إحياءها من خلال مصادرها، و تحديد بداية الحادث، وقراءتها قراءة متسلسلة، و مقارنتها مع حوادث تاريخية أخرى.
ويعتبر "ابن خلدون" أول من وضع الأسس المنهجية للدراسة التجريبية للحوادث التاريخية، وتذليل عقباتها عندما فسّر أخطاء المؤرخين، و أصر على ضرورة إحاطة المؤرخ بطبائع (القوانين) العمران البشري (الإجتماع) لأن التاريخ يبدو في ظاهره أخبارا تروى، ولكنه في باطنه علم من علوم الحكمة يرمي إلى معرفة الأحداث التاريخية (الإجتماع)، ولهذا يجب التحلي بروح النقد التاريخي، حيث يقول :"إن النفس إذا كانت على حال من الإعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه في التمحيص و النظر".
كما نجد أيضا كل من "جان باتيستا فيكو" الإيطالي، و "أرنست رينان" الفرنسي من رواد علم التاريخ الذين يؤكدون على علمية التاريخ، ولعل "قانون الدورة التاريخية" عند "فيكو" يدل على الدراسة العلمية للتاريخ، ومبدأ " النقد التاريخي" عند "رينان" يدل على الشك في أحداث التاريخ من جهة موضوعيتها، ولذلك فالمنهج الإستقرائي في التاريخ القائم على جمع الآثار و المصادر، ثم تحليلها و نقدها، ثم تركيبها و الكشف عن أسبابها يدل على علمية التاريخ، فكما يقول "بول ريكور" (1913- 2004) :" إن معرفة الإنسان بالتاريخ ليست معطى جاهزا، بل يتم بناؤها بواسطة منهج ينشئه المؤرخ انطلاقا من استنطاق الآثار، و مساءلة الوثائق".
إذن، فالظواهر الإنسانية و الإجتماعية يمكن أن تتصف بالموضوعية والعلمية وفق خصوصياتها.
صحيح نسبيا ما أكده أنصار الموقف الأول، لكن التسليم بعملية الدراسات الإنسانية و الإجتماعية لا يعني أنها بلغت منتهى الموضوعية، لأن نجاح علم النفس – مثلا- الموضوعي في معرفة الوجه الخارجي للظواهر الإنسانية لا يكفي لمعرفة الحقيقة النفسية المعنوية المصحوبة بالوعي، فكيف يمكن للباحث أن يقوم بالتجربة على حوادث نفسية معنوية؟، كما أن تعدد المناهج (الوصفي – المسحي- التجريبي- العيادي...إلخ) في علم النفس يطرح أشكالا ابستيمولوجيا في دراسة
الظواهر النفسية، وهذا ما يؤدي إلى تشتت هذا العلم،
وغياب وحدة تأليفية للموضوع و المنهج، ونفس الشيء يقال عن الظاهرة الإجتماعية التي لا يمكن تشكيلها مخبريا نظرا لتعقيدها و صعوبة ضبطها مثلها مثل الظاهرة النفسية، أما التاريخ فهو مزيف – كما قال أحد المفكرين الفرنسيين – لأنه يكتب من طرف الأقوياء و المنتصرين حسب وجهات نظرهم و أيديولوجياتهم (ذاتية المؤرخ)، فبأي معنى يبقى للمنهج العلمي دقته إذا عجز علماء الإنسان و المجتمع عن تطبيق خطواته الأساسية المتمثلة في الملاحظة و الفرضية و التجربة وصولا إلى القانون؟، كما أن الظاهرة الإنسانية تتميز بخصائص فريدة من نوعها، وهذا ما يجعلها تمثل عائقا أمام العمل التجريبي.
وعلى النقيض يرى أنصار الموقف الثاني الذي يمثله بعض علماء الإنسانيات و الفلاسفة أنه لا يمكن إخضاع الظواهر الإنسانية و الإجتماعية للدراسة العلمية، وذلك نظرا لطبيعة هذه الظواهر و خصائصها، فالظاهرة الإنسانية – حسبهم – ذات طابع معنوي من الصعب قياسها و التعبير عنها كميا، كما أنها ذاتية و فردانية متميزة، ويحكمها "أنا خاص"، إنها ظاهرة متداخلة بين ما هو نفسي، وما هو مادي، وما هو اجتماعي وما هو نفسي أو اجتماعي مع ما هو تاريخي، فهي ظاهرة متغيرة باستمرار (ديناميكية). وبالتالي، فظاهرة بكل هذه الخصائص من الصعوبة
تشكيلها مخبريا أو إخضاعها لمقياس التجريب أو التعبير عنها بلغة الرياضيات، أو التنبؤ بها.
فالظاهرة النفسية متميزة بالتعقيد و التغير و التشابك، فمثلا: المشاعر متداخلة مع بعضها البعض، والإنسان ينتقل في انفعالاته من القلق إلى السكون، ومن الفرح إلى الغضب، ومن التفاؤل إلى التشاؤم في لحظات، وهذا ما جعل "هنري برغسون" يعتبر الحياة النفسية كيف بحت (أي يمكن وصفها فقط) إذ لا يمكن تفسيرها، لأنها تلقائية.
أما "كانغيلام" فيقول : "يبدو علم النفس كفلسفة تعوزها الدقة"، مما يعني أنه لم يحقق علميته بعد، فالعواطف و الأهواء و المشاعر لا يمكن حسابها عدديا، لأنها ظواهر معنوية لا يمكن ملاحظتها، و لفهم الظواهر النفسية نحتاج إلى المنطق العاطفي لا إلى منطق العقل، لذلك فالمنهج الإستنباطي – وليس الإستقرائي – هو السبيل إلى فهم الظواهر التي لا تقبل التفسير العلمي، ولقد قيل : "إن الظواهر النفسية قابلة للفهم، وليست قابلة للتفسير"، لأنها لا تخضع لمبدأ الحتمية، إذ يصعب أن نتنبأ بسلوك الإنسان و بردود أفعاله.
كما أن التجريب على الظاهرة الإجتماعية أمر صعب، لأنها ظاهرة مركبة تتداخل فيها أبعاد الإنسان المختلفة، النفسية و الفكرية و السياسية و الدينية... إلخ، وهنا يصعب ضبطها نتيجة تعدد أسبابها، فهي متغيرة لا يمكن تناول حقائقها كأشياء، ولذلك فهي فردية، وفريدة من نوعها ترتبط بمكان وزمان و مجتمع معين، كما أنها تخضع لذاتية الباحث و أفكاره و أيديولوجيته، وهذا ما يجعلها تفسّر وفقا لأغراض شخصية أو سياسية مما يجعلها فاقدة للمصداقية و الموضوعية، لأنه من الصعب أن نكون موضوعيين في مجال يبيّن الجانب الذاتي من الحياة، فكما يقول "أوجست كونت" : " إن الذات التي تريد أن تدرس نفسها، هي مثل العين التي تريد أن ترى نفسها دون واسطة، أو كالشخص الواقف في الشرفة ويرى نفسه يتجول في الشارع"، ولعل قول "هنري برغسون" يتضمن في طياته التعبير الحقيقي عن طبيعة الظاهرتين النفسية و الإجتماعية، فكما يقول :" إن غاية العلم معرفة المادة، وغاية الفلسفة معرفة الروح، وتقع العلوم الإنسانية كعلم النفس و الإجتماع بين الفلسفة و العلم".
ويرى الاتجاه الكلاسيكي المعارض لعملية التاريخ أن الظواهر التاريخية لا يمكن أن تتصف بالموضوعية ولا بالعلمية، لأنه يتعذر ملاحظتها مباشرة لأنها حوادث ماضية و فريدة من نوعها، كما يتعذر إجراء التجارب على الماضي، مما يعني انعدام أداة التحقق، وهذا ما يجعل من القوانين التاريخية مجرد افتراضات لا دقة ولا يقين فيها، ولأن ذاتية المؤرخ وعقيدته وانتمائه تتدخل في عملية التأريخ (كتابة التاريخ)، فإن الدراسة التاريخية تفقد روح الموضوعية.
ويبررون موقفهم بكون " الإنسان هو الباحث وموضوع البحث في نفس الوقت"، فالمؤرخ جزء من حوادث التاريخ التي يدرسها علم التاريخ، ويقول "دنيس ديدرو" (1713- 1784) : " هناك نوعان من التاريخ، التاريخ الرسمي الذي يلقّن في المدارس، والتاريخ الفعلي الذي تحجبه السياسة"، كما يصعب تطبيق الحتمية على التاريخ، أو التنبؤ بمستقبله، فأي معنى لعلم يعجز عن ضبط ظواهره؟
إذن، فإن عوائق الظاهرة الإنسانية سواء في علم النفس أو علم الإجتماع أو التاريخ...إلخ، تعجز أو تحول دون تحقيق الدقة والموضوعية العلمية.
صحيح نسبيا ما أكده أنصار الموقف الثاني، لكن هذه العوائق لم تمنع علماء العلوم الإنسانية و الإجتماعية من المحاولات الرامية غلى الحد منها، ومن تحقيق نتائج مهمة في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، ففي علم النفس أصبح بالإمكان استخدام الملاحظة في دراسة السلوك، واستنتاج الفرضيات المفسرة للسلوك، ومحاولة إخضاع السلوك للتجربة، مما يسمح بالتحقق من الفروض و بلوغ القانون المعبر عن الاحتمال على الأقل، ونفس الشيء يمكن أن يقال عن علم الإجتماع الذي أصبح يعتمد على التجربة في بعض الأحيان، كما أن النظر إلى التاريخ وكأنه ظاهرة مادية يفقده خصوصيته الديناميكية، ومهما كان ألا يمكن أن يتحلى المؤرخ بالنزاهة و الروح العلمية؟
كما أن تعدد مناهج العلوم الإنسانية و الإجتماعية هو السبيل اللازم للتغلب على تعقيد الظاهرة الإنسانية.
وتركيبا لهذا الجدل الفلسفي و العلمي بين الموقفين (التوفيق بين الرأيين)، فإن الظواهر الإنسانية و الإجتماعية متعددة و متشابكة، منها ما يخضع للفهم، ومنها ما يخضع للتفسير، منهج الفهم الذي يعتمد على التعاطف مما يجعله يفتقد إلى الموضوعية، أما منهج التفسير، فيعتمد على المنهج التجريبي والكم الرياضي، أي أن دراسة الظاهرة الإنسانية تعتبر ذاتية من جهة، وموضوعية علمية من جهة أخرى.
وعليه فإن الظواهر الإنسانية تحولت من طابعها الميتافيزيقي إلى طابعها العلمي الاحتمالي بفضل الفهم و التفسير معا، وهذا ما أكده "بول ريكور" بقوله :" نفسر أكثر، كي نفهم أكثر"، مما يعني أن مسألة العلمية تبقى مرهونة باجتهاد الباحث وانضباطه العلمي، والروح العلمية التي قال عنها "غاستون باشلار" :" تمنعنا من تكوين أي رأي في مسائل لا نفهمها ولا نعرف كيف نصوغها صياغة واضحة". ومن هنا فالظاهرة الإنسانية خاضعة ل"أنا عاطفي فردي واجتماعي" من جهة، ويمكن دراسة هذا "الأنا" دراسة علمية من جهة أخرى.
ومن وجهة نظري الشخصية (موقفي الذاتي)، فإنه لا يمكن إخضاع الظواهر الإنسانية و الإجتماعية للمنهج التجريبي، أي يصعب دراستها دراسة علمية، ودليلي على ذلك أنها تمتاز بعدة خصائص و مميزات تجعلها تختلف عن الظواهر الطبيعية، وهذا ما أدى إلى وجود عوائق وصعوبات تصادف الباحث أثناء محاولته دراسة ظواهر الإنسان والمجتمع، فمثلا: في دراسة الأحداث التاريخية تتدخل ذاتية المؤرخ أثناء تفسير حادثة تاريخية معينة، لأننا مثلا: لا نستطيع أن نطلب من الإشتراكي أن يعطينا دراسة موضوعية و حقيقة حول الرأسمالية، فكما يقول المؤرخ الإنجليزي "هنري كار" :" قبل أن تقرأ التاريخ، يجب أن تقرأ عن المؤرخ، وقبل أن تقرأ عن المؤرخ يجب أن تقرأ عن خلفيته السياسية و الثقافية و الإجتماعية".
أما الظواهر الإجتماعية فهي متغيرة ولا تخضع لمبدأ الحتمية، فالزوج مثلا: لا يستطيع أن يطلق زوجته بالرغم من حضور أسباب الطلاق، كما أن الظاهرة الإجتماعية معقدة و متشابكة لارتباطها بالظواهر النفسية خاصة.
وإذا تحدثنا عن الظواهر النفسية فهي متغيرة لارتباطها بالشعور واللاشعور، ولذلك فهي ذاتية وتتميز بالتداخل و التعقيد، بحيث يتداخل فيها الإدراك مع الإحساس، والذاكرة مع الخيال، و الإنتباه مع الإدارة...إلخ، وهذا ما جعل "جون ستيوارت مل" يقول :" إن الظواهر المعقدة [كالظواهر الإنسانية مثلا]... لا تصلح أن تكون موضوعا حقيقيا للاستقراء العلمي".
ــ حل المشكلة:
ونستنتج من كل ما سبق تحليله أن وجود عوائق و صعوبات أثناء البحث العلمي المتعلق بالظواهر الإنسانية و الإجتماعية يدل على صعوبة إخضاعها للمنهج التجريبي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فمجال الظاهرة الإنسانية و الإجتماعية قد حقق تطورات هامة خاصة في الفترة المعاصرة، مما يعني أن تحقيق الموضوعية أمر ممكن في العلوم الإنسانية مادام الباحث متمسكا بأصول البحث العلمي الموضوعي، آخذا بعين الإعتبار طبيعة الظواهر الإنسانية و الإجتماعية و خصائصها، من أجل بلوغ الدقة (القانون) و الحتمية والسببية كما هو الحال في العلوم الطبيعية، وهذا ما أكده "بول موي" بقوله :" الحق أن إمكانية قيام العلوم الإنسانية رهن بهذا الشرط كما هو الحال في سائر العلوم، والواقع أن من الممكن أن يكون الإنسان موضوعا لعلم وضعي، لأنه يمكن أن يخضع لملاحظات منهجية".
وأخيرا، إن الظواهر الإنسانية و الإجتماعية يمكن أن تتصف بالعلمية و الموضوعية، لكن هناك حدود و عوائق لا يمكن تجاوزها، كما أن العلوم الإنسانية و الإجتماعية لا تكتفي بالمنهج الإستقرائي دائما، بل كثيرا ما تلجأ للمناهج الأخرى كي تستعين بها، وخاصة المنهج الإستنتاجي (الإستنباطي)، ونتائجها لم تعد يقينية، بل احتمالية تقريبية فقط.