هل الحقيقة الرياضية (اليقين الرياضي) مطلقة أم نسبية؟
ــ طرح المشكلة :
يقول "أفلاطون": "من لم يكن رياضيا لا يطرق بابنا"، من هذا القول نفهم أن الرياضيات تعد من أقدم العلوم نشأة، إن لم تكن أولها على الإطلاق، لأنها ارتبطت بإنجازات الإنسان في الحضارات الشرقية القديمة (المصرية- الصينية- الهندية- الفارسية...الخ)، و بما أن الرياضيات هي علم دراسة المقادير القابلة للقياس الكمي المجرد المتصل (الهندسة) و المنفصل (الحساب)، فإن منهجها يعتمد على الاستنتاج، و لقد أثارت مشكلة "اليقين الرياضي بين المطلق و النسبي" جدلا و سجالا بين الفلاسفة و العلماء، فهناك من يرى أن اليقين الرياضي أو النتائج الرياضية مطلقة و يقينية، و نقيضا لذلك هناك من يؤكد أن المعرفة الرياضية نسبية و متغيرة، ومنه نطرح المشكلة ونقول : إلى أي مدى يمكن اعتبار اليقين الرياضي ثابت و مطلق دائما؟ و بصيغة أخرى: إذا كنت أمام موقفين متعارضين، أحدهما يرى أن النتائج الرياضية يقينية و واضحة، والآخر يؤكد أنها احتمالية و تقريبية، فما هو موقفي من هذه المشكلة الفلسفية؟
ــ محاولة حل المشكلة:
يؤكد أنصار الموقف الأول الذي يمتلكه كل من (أفلاطون- ديكارت- كانط- غوبلو- كارل بوبر) أن النتائج الرياضية (اليقين الرياضي) مطلقة و ثابتة لا تتغير، و تتميز باليقين و البداهة و الوضوح، فالرياضيات تعبر عن المعارف اليقينية التي تتصف بالدقة و المطلقية، و دليلهم على ذلك أن الرياضيات علم عقلي خالص يهتم بالمفاهيم الرياضية البسيطة و الواضحة و الثابتة و المترابطة فيما بينها، و الصادقة التي لا يعتريها شك. فقد أكد "أفلاطون" أن الحقيقة الرياضية مطلقة، لأنها موجودة في عالم المثل (العقل) و تتميز بالثبات، فكما يقول:" إن الرياضيات تجبر النفس على استخدام الذكاء الخالص" ، و هكذا تكون النتائج الرياضية مثالية يقينية ما دامت عقلية.
أما "ديكارت" باعتماده على المنهج الشكي، فقد شك في نتائج جميع العلوم ماعدا الرياضيات، لأن مصدرها العقل الذي لا يخطئ أبدا، مما يعني أن نتائج الرياضيات مطلقة، فالمربع – مثلا – كمفهوم ذهني يتجلى في أذهاننا واضحا و بسيطا و ثابتا، لأن تعريفه مطلق، فهو شكل هندسي يتألف من أربعة أضلاع، و أربعة زوايا، و هكذا أمثلة. في حين أكد "كانط" أن النتائج الرياضية تتميز بالثبات و المطلقية، و هذا ما أكده بقوله:" الرياضيات لا يمكن أن تخطئ أبدا".
نفس الرأي تبناه "كارل بوبر" عندما بين أن المعرفة الرياضية لا يعتريها النقص (أي أنها مطلقة) ما دامت الرياضيات علم يعتمد على العقل بمبادئه الفطرية، فكما يقول :" الرياضيات كلمات قليلة ووضوح تام".
أما الرياضي و المنطقي الفرنسي "غوبلو" فقد أكد أن النتائج الرياضية تتميز بالخصوبة و اليقين، وهذا ما أكده بقوله :" إن الإستدلال الإستنتاجي ...استدلال يقيني".إذن، فالنتائج الرياضية مطلقة و ثابتة بالضرورة.
صحيح نسبيا ما أكده أنصار الموقف الأول، لكن النتائج الرياضية ليست مطلقة دائما، بل نسبية و متغيرة، لأن تطور علم الرياضيات دليل على عدم مطلقية الحقائق الرياضية من جهة، و على ظهور نظريات رياضية جديدة من جهة أخرى، مثل: نظرية المجموعات ل "كانتور"، كما أن النتائج الرياضية ليست يقينية وواضحة، لأن البديهيات لم تعد كذلك في ظل اللانهاية، و التعريفات التي كانت مطلقة انتهت إلى لا معرفات، أضف إلى ذلك أن التطبيقات العملية للرياضيات تجعل الحقيقة الرياضية نسبية، بل إن "ديكارت" نفسه التمس معالم التغير في الرياضيات حيث قال :" من يدري ربما سيأتي بعدي من يثبت لكم أن مجموع زوايا المثلث لا يساوي (180°) درجة".
وعلى النقيض يؤكد أنصار الموقف الثاني الذي يمثله كل من (بوليغان- برتراند راسل- هنري بوانكاري- روبير بلانشي) أن النتائج الرياضية نسبية و متغيرة، و تتميز بالتقريب و الإحتمال و اللايقين، و دليلهم على ذلك تطور علم الرياضيات و تغير حقائقها بظهور الرياضيات المعاصرة التي مثلت فيها الهندسات اللاإقليدية ثورة رياضية على الهندسة الإقليدية القائمة على مرجعية السطح المستوي التي نتج عنها عدة حقائق كانت مطلقة و ثابتة لمدة عشرين (20) قرنا، و أهمها مسلمة التوازي القائلة بأنه :"من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم مستقيم واحد موازي فقط"، وهكذا تكون مجموع زوايا المثلث تساوي (180°)، لكن مع ظهور الهندسات اللاإقليدية، ما كان ثابتا في الهندسة الإقليدية أصبح متغيرا، لأن عالم الرياضيات الروسي "لوباتشفسكي" اكتشف هندسة خاصة مبنية على السطح المقعر(شكل الكرة من الداخل)، وبهذا أثبت أنه :"من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم عدة مستقيمات موازية"، و بالتالي فمجموع زوايا المثلث أقل من (180°).
أما عالم الرياضيات الألماني "ريمان"، فاكتشف عام (1851م) أن السطح محدب (شكل الكرة من الخارج) وتبعا لذلك:" من نقطة خارج مستقيم لا يمكن رسم مستقيمات متوازية على الإطلاق"، وبذلك فمجموع زوايا المثلث أكبر من (180°)، وهذا ما جعل "بوليغان" يقول :"إن كثرة الأنظمة في الهندسة لدليل على أن الرياضيات ليس فيها حقائق مطلقة"، أو كما يقول "هنري بوانكاري" : "ليست هناك هندسة أكثر يقينا من هندسة أخرى، وإنما أكثر ملاءمة لأننا ألفناها".
وما يدل أكثر على تغير النتائج الرياضية أن منهج الرياضيات الكلاسيكية قائم على التحليل و التركيب، أما منهج الرياضيات المعاصرة، فهو أكسيومي (فرضي استنتاجي)، مما جعل "روبير بلانشي" يقول : "لم تعد الرياضيات اليوم تتحدث عن المنطلقات الرياضية باعتبارها مبادئ بديهية، لأنها في الحقيقة مجرد افتراضات تابعة لاختيار العقل الرياضي الحر"، و هذا يعني أن المسلمات هي مجرد ممكنات افتراضية يضعها الرياضي وفق انسجام منطقي معين فقط لاعتمادها في البرهان، وهذا ما جعل "برتراند راسل" يقول "إن الرياضيات هي العلم الذي لا يعرف عما يتحدث و ما إذا كان ما يتحدث عنه صحيحا".
زد على ذلك أن التطبيقات الرياضية تجعل الدقة الرياضية مجرد تقريبات واحتمالات = (3،14) أي (22/7) يدل على أن تقسيمه ( pفقط، فمثلا: العدد (الفعلي يساوي أكثر من (14،3) لأن (3،14) ضرب (7) لا يساوي (22) (أقل).
إذن، فالنتائج الرياضية نسبية و احتمالية.
صحيح نسبيا ما أكده أنصار الموقف الثاني، لكن هذا التعدد النسقي الهندسي ليس مبررا لتراجع اليقين الرياضي، فهو تعدد لا يقضي على يقين كل نسق من الأنساق على حدا، فجميعها إنشاءات متسقة تخلو من أي تناقض داخلي، وارتباط الرياضيات بتطبيقات تجريبية ليس تقليل من يقينها بقدر ما هو تأكيد على دورها في تطوير كثير من العلوم، زد على ذلك أن بعض المفاهيم الرياضية يقينية و مطلقة، و لم تتغير، فمثلا: (1+1 =2)، المثلث شكل هندسي يتألف من ثلاثة أضلاع وثلاثة زوايا...الخ، أضف إلى ذلك أن اللغة الرياضية تتميز بالدقة و اليقين ما دامت كمية، وهذا ما يدل على مطلقية النتائج الرياضية.
وتركيبا لهذا الجدل الفلسفي بين الموقفين (التوفيق بين الرأيين)، فإنه يمكن التأكيد على أن النتائج الرياضية ليست مطلقة دائما، كما أنها ليست نسبية بصفة دائمة، إنما هي يقينية من حيث المنهج و أساليب البرهنة، وهذا الصدق يفرضه الانسجام بين المبادئ و النتائج، وهي نسبية من حيث النتائج من جهة ثانية، إذ نجد الحقائق الرياضية إذا نظرنا إليها من زاوية النسق الأكسيومي (الفرضي الإستنباطي)، ومعنى هذا أن النتائج الرياضية مطلقة و نسبية.
ومن وجهة نظري الشخصية (موقفي الذاتي) فإن نتائج الرياضيات (حقائقها) مطلقة، أي ثابتة و يقينية، ودليلي على ذلك أن هندسة "إقليدس" كانت قائمة على مسلمات مطلقة و ثابتة مثل: مسلمة السطح المستوي التي نتج عنها مايلي :"من نقطتين يمر مستقيم وحيد"، " المستقيم لا نهاية له، أي يمكن تمديد المستقيم من الجهتين إلى ما لا نهاية"، " من نقطة معينة ومن مجال أو قطعة ما هناك قوس دائرة وحيد"،"كل الزوايا المستقيمة متساوية فيما بينها".
كما أن الرياضيات الكلاسيكية (القديمة) مبنية على بديهيات و قضايا أولية يصدق العقل بها، لأنها عامة وواضحة مثل: الكل أكبر من الجزء، و المتوازيان لا يلتقيان إذا كان السطح مستوي، و المساويان لثالث متساويان...الخ، وهذا ما جعل "ديكارت" يقول: " لا أقبل شيئا على أنه صحيح إلا إذا كان بديهيا"، بل إن عماد الرياضيات على المسلمات يجعل نتائجها دقيقة، ولهذا توصف بأنها :" علم دقيق"، أو أنها أرقى العلوم على الإطلاق، لأن نتائجها لا يمكن الشك فيها،وهذا ما جعل "هنري برغسون" يقول:" إن الرياضيات هي اللغة الوحيدة التي يجب أن يتحدث بها العالم".
ــ حل المشكلة:
و نستنتج مما سبق تحليله أن الرياضيات يقينية ولا شك في قيمتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فتعدد أنساقها دليل على تطورها، لأنها لم تعد ذلك العلم المطلق، بل أصبحت نتائجها نسبية مبنية على العقلانية الجديدة (النسق الأكسيومي) القائمة على المنهج الفرضي الإستنباطي، وبذلك انتهت الرياضيات إلى تعدد الأنساق، حيث أصبح كل نسق يتوفر على اليقين طالما أن هناك تماسكا منطقيا (عدم تناقض النتائج مع المنطلقات)، وهكذا أصبح وضع الأولويات (الفرضيات) شرطا في الرياضيات المعاصرة، ومنه يمكننا القول أن النتائج الرياضية ليست صادقة دائما، بل صدقها مرتبط بنسقها، وهذا ما جعل "برتراند راسل" يقول :" كل علومنا الدقيقة [وأرقاها الرياضيات] يهيمن فيها التقريب".
و أخيرا، فالرياضيات تمثل العالم المجرد والأكثر صورية و ذلك بسبب لغتها الرمزية الدقيقة التي تمثل نموذجا لليقين، و يقول في هذا السياق "أوغست كونت" :" الرياضيات هي الآلة الضرورية لجميع العلوم".