ــ طرح المشكلة:

  إن غاية العلم هي الوصول إلى تفسير الظواهر تفسيرا علميا دقيقا، أي معرفة الأسباب التي تتحكم في الظواهر و مختلف النتائج المترتبة عنها، وهذا يستلزم اعتماده على مبادئ صحيحة و صارمة بواسطتها يرجع الظواهر إلى شروط معلومة، ومن أبرز ما يعتمده العلم من مبادئ نجد "مبدأ الحتمية" الذي عرفه الفيزيائي الألماني "هانز ريشنباخ" بقوله :" يعني هذا المبدأ في الأساس أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج حتما"، أما "مبدأ اللاحتمية " فيعني أن :"نفس الأسباب لا تؤدي إلى نفس النتائج، أي أن الظواهر الطبيعية لا تخضع لنظام ثابت"، ولقد أثارت مشكلة "العلم بين الحتمية و اللاحتمية" جدلا واختلافا وتناقضا بين الفلاسفة والعلماء، فهناك من يرى أن الطبيعة تخضع لنظام لا حتمي متغير، ومنه نطرح المشكلة ونقول: هل الطبيعة تتحكم فيها أسباب و قوانين حتمية صارمة؟ وبطبيعة أخرى: إذا كنت أمام موقفين متعارضين، أحدهما يرى أن الظواهر الطبيعية تخضع لنظام ثابت مطلق، والآخر يؤكد أنها تخضع لنظام متغير نسبي، فما هو موقفي من هذه المشكلة العلمية؟

ــ محاولة حل المشكلة: 

يؤكد أنصار الموقف الأول الذي يمثله علماء الفيزياء الحديثة وفلاسفة القرن التاسع عشر أمثال (نيوتن – لابلاس – غوبلو – كلود برنارد – هنري بوانكاري) أن الطبيعة تخضع لنظام ثابت لا يقبل الشك أو الإحتمال، لأنها غير مضطربة ولا معقدة، وبالتالي فمبدأ الحتمية هو أساس القانون العلمي، ورفضه يعني إلغاء للعلم ذاته، وهذا يعني أن الحتمية مبدأ مطلق، فجميع الظواهر الكونية سواء المادية منها أو البيولوجية يمكن التنبؤ بها في المستقبل قبل حدوثها، وهذا الأمر يشترط الكشف عن العلاقات الثابتة بين الظواهر الطبيعية الخاضعة لمبدأ ثابت، فالحوادث العلمية لا تحدث عبثا، بل لها شروط محددة، فإذا توفرت هذه الشروط تحققت النتائج حتما، فمبدأ الحتمية يعتبر إحدى تجليات الفكر الرياضي في الفيزياء النيوتنية، و يقول "هانز ريشنباخ" : "أما حتمية العصر الحديث فقد ظهرت نتيجة لنجاح المنهج الرياضي في الفيزياء".

إن هذا الموقف يرتبط بفيزياء "إسحاق نيوتن" القائمة على المطلقات الثلاث "المكان والزمان و الحركة"، فقد شبه "نيوتن" الكون بالساعة في الدقة و الآلية، ويعتقد أن تفسير الكون يخضع لمبادئ ذكر منها مايلي :" لكل فعل رد فعل يساويه في الشدة ويعاكسه في الاتجاه"، والتنبؤ يستند إلى القاعدة القائلة :"إذا علمنا موقع جسم وسرعته وطبيعة حركته أمكننا التنبؤ بمساره". وقد أشار "نيوتن" في القاعدة الثانية من أسس تقدم البحث العلمي والفلسفي إلى مبدأ الحتمية بقوله :"يجب أن نعين قدر المستطاع لنفس الآثار الطبيعية نفس العلل".

ومن هذا المنطلق يمكن أن نتصور نظاما آليا للكون، وهذا ما عبر عنه "سيمون دو لابلاس" بمقولته الشهيرة: "يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة،وسببا في حالته اللاحقة"

كما اعتبر "بوانكاري" الحتمية مبدأ لا يمكن الإستغناء عنه في أي تفكير علمي أو غيره، فهو يشبه إلى حد كبير البديهيات الرياضية، إذ يقول :" إن العلم حتمي وذلك بالبداهة"، ويضيف قائلا :" إن عالما لا تسوده الحتمية هو عالم موصد في وجه العلماء، لأن العلم بطبيعته حتمي".

ونفس الرأي أكده عالم البيولوجيا "كلود برنارد" عندما أثبت أن الحتمية ليست خاصة بالعلوم الطبيعية فقط , بل هي سارية المفعول حتى في علوم الأحياء التي تدرس الكائنات الحية , ويقول في هذا السياق :تتحدد الشروط وجود كل ظاهرة تحديدا مطلقا في جميع الكائنات سواء أكانت أجساما حية أو جامدة"، ويقول أيضا :"إن العلم يضع كل شيء موضع الشك إلا الحتمية فلا مجال للشك فيها".

كما أكد "غوبلو" أن الطبيعة ثابتة، وهذا ما يجعلها تخضع بصرامة لمبدأ الحتمية، فكما يقول :" الكون متسق تجري حوادثه وفق نظام ثابت، إن النظام الكوني كلي وعام". إذن، فالظواهر الطبيعية تسير وفقا لحتمية مطلقة. 

إننا لا ننكر ما للحتمية من أهمية في تفسير الطبيعة، لكن وجود نظام صارم للكون لا يعني بالضرورة أن الحوادث العلمية تخضع إلى آلية صارمة، كما أن العلم المعاصر أثبت لنا أن الظواهر المتناهية في الصغر (الميكروسكوبية) مثل "الذرة" لا تخضع لمبدأ الحتمية، بل إن العديد من الظواهر الطبيعية لا تزال مستعصية على العلم، لأنها لا تقبل التنبؤ مثل: الزلازل، وسقوط الأمطار ...الخ، أضف إلى ذلك أن التفسير الميكانيكي الآلي للكون وما نتج عنه من مطلقات في فيزياء "نيوتن" قامت بدحضه النظريات العلمية المعاصرة مثل:"نظرية الكوانتا" و "النظرية النسبية"، ولو سلمنا بمبدأ الحتمية المطلق كأساس للعلم، فإن ذلك يؤدي بنا إلى الصرامة العلمية و غياب النقد و الشك في النتائج العلمية، كما أن الحتمية مجرد مسلمة و فرضية عقلية، وليست حقيقة تجريبية، وما هو مسلم به يحتمل الصواب أو الخطأ.

        وعلى النقيض يؤكد أنصار الموقف الثاني الذي يمثله علماء الفيزياء المعاصرة و فلاسفة القرن العشرين أمثال (ماكس بلانك – إيدينجتون- ديراك – هيزنبرغ – أينشتاين – جون إيرمان) أن الظواهر الطبيعية تخضع لنظام متغير يقبل الإحتمال، مما يعني أن مبدأ اللاحتمية يسود الطبيعة بدليل أن الأبحاث التي قام بها علماء الفيزياء و الكيمياء على الأجسام الدقيقة (الميكروفيزيائية) – اكتشاف "جون طومسون" للإلكترون، و"أرنست رذرفورد" للإشعاع النووي للذرة – أدت إلى نتائج غيرت الاعتقاد بمبدأ الحتمية و المطلقية تغييرا جذريا، لذا قال "هيزنبرغ" : "إن الوثوق الحتمي كان وهما"، لأن بعض الظواهر الطبيعية لا تخضع لقوانين صارمة، الأمر الذي أدى إلى ظهور مبدأ اللاحتمية أو حساب الإحتمال، فالظواهر المتناهية في الصغر تخضع للاحتمية، وبالتالي فالحتمية أصبحت غير ممكنة في ظل الاكتشافات العلمية المعاصرة، ومعنى هذا أنه لا يمكن التنبؤ بهذه الظواهر الميكروفيزيائية، ففي مستوى فيزياء الذرة قانون السرعة (س=م/ز) لا يمكن تطبيقه لقياس دوران الإلكترون حول النواة، لأن دورانه عشوائي ومتغير ذو سرعة فائقة جدا حوالي (7) مليار د/ثا، إذ لا يمكن التنبؤ بمساره. ونفس الشيء بالنسبة لبعض ظواهر العالم الأكبر (الماكروفيزياء) مثل: الزلازل والبراكين والفيضانات...الخ، فكما يقول "هيزنبرغ" : "كلما تم التدقيق في موقع الجسيم كلما غيرت هذه الدقة كمية حركته، وبالنتيجة سرعته، وكلما تم التدقيق في قياس كمية حركته كلما التبس [أي لا يمكن تحديد مكانه] موقعه...لذلك تصعب معرفة موقعه و سرعته في زمن لاحق".

إن هذه الحقائق غيرت المفهوم الحتمي حيث أصبح علماء الفيزياء يتكلمون بلغة الإحتمال أو اللاتعيين أو اللاتحديد خاصة مع النظرية النسبية ل"أينشتاين" التي نجمت عنها نسبية الزمان و المكان و الحركة و الكتلة، وهذا ما يتضح في قوله :"كلما اقتربت القوانين من الواقع أصبحت غير ثابتة، وكلما اقتربت من الثبات أصبحت غير واقعية".  ومن الأمثلة التي تؤكد لا حتمية العلم أن انشطار ذرة الراديوم لا يخضع لقاعدة أو قانون ثابت، كما أن الذرة تصدر طاقة في شكل صدمات غير منتظمة يصعب معها التنبؤ الدقيق، وكما قال "ديراك" : "لا يمكن التنبؤ إلا على هيئة ما يسمى حساب الاحتمالات"، ومن هنا فبحوث الذرة و الضوء، والكهرباء و المغناطيس...الخ، حطمت التصور الحتمي للكون، وهذا ما أكده "إدنجتون" بقوله :" الإيمان بوجود علاقات دقيقة صارمة في الطبيعة هو نتيجة للطابع الساذج الذي تتصف به معرفتنا للكون"، والسبب في ذلك هو ما تنطوي عليه أدوات العلم من أشكال الدحض و الرفض، مما جعل "جون إيرمان" يقول :  "إن كل النظريات الفيزيائية الحديثة هي نظريات لاحتمية ".إذن، فالطبيعة تسير وفق نظام احتمالي لا حتمي، أو كما يسميه "هيزنبرغ": "نظام علاقة الارتياب".

صحيح أن النتائج و البحوث العلمية المعاصرة أثبتت أن عالم الميكروفيزياء يخضع للاحتمية، وحساب الإحتمال، لكن ذلك مرتبط بمستوى أدوات الملاحظة و القياس لحد الآن، فقد تتطور التقنية، وعندئذ في الإمكان تحديد موقع و سرعة الجسم في آن واحد، كما أن إنكار مبدأ الحتمية هو تجاهل للعلم ذاته، بل ويبعد العلم عن غايته المتمثلة في التنبؤ بالظواهر، أضف إلى ذلك أن التحديد الرياضي للعلاقات بين الظواهر المتناهية في الصغر يمكن أن يحل المسألة إلى حين، كما أن مبدأ اللاحتمية ينطبق على عالم الذرة، أما عالم الكون فيخضع لمبدأ الحتمية، مادامت بعض الظواهر الطبيعية يمكن التنبؤ بها مثل: الأعاصير والفيضانات...الخ.

وتركيبا لهذا الجدل الإبستيمولوجي بين علماء الفيزياء الكلاسيكية و المعاصرة (التوفيق بين الرأيين)، فإن بعض العلماء حاولوا الجمع معرفيا و منهجيا بين المبدأين في العلم (الحتمية واللاحتمية) مثلما فعل "لويس دو بروغلي" عندما اعتمد مبدأ حساب الإحتمال، بحيث أن مبدأ الحتمية، وإنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة، أي تهدم المبدأ التقليدي"، مما يعني أنه لا وجود لقوانين علمية مطلقة وثابتة، فالنسبية أساس العلم، وهذا التوجه العلمي الجديد عبر عنه "برتراند راسل" بمصطلح "الحتمية المعتدلة"، وهو مبدأ ينسجم مع البحوث العلمية المعاصرة.

ومن وجهة نظري الشخصية (موقفي الذاتي)، فإن عالم الجسيمات الدقيقة دون الذرية يخضع لقوانين اللاحتمية أو ما يعرف بمبدأ اللاتحديد و اللايقين، فحسب هذا المبدأ ما يحدث على صعيد الإلكترونات و البروتونات و النيترونات...الخ، وهو نتيجة للمصادفة المحضة و الإحتمال بدليل أنه لا يمكن تحديد مكان و سرعة و عنصر"الإلكترون" ما دامت حركته عشوائية لا يمكن التنبؤ بها، وفي هذه الحالة سيكون من المستحيل صياغة قوانين سببية دقيقة يخضع لها تحرك الإلكترون، كما أثبتت نظرية الكوانتا أن الذرة المشعة لا تصدر طاقتها بصفة منتظمة أو متصلة، وإنما تصدرها بصفة انفصالية أو بصدمات، مما يعني أن مبدأ الحتمية لا يصح في مستوى الفيزياء الذرية مادامت نفس الأسباب لا تؤدي إلى نفس النتائج، فكل الظواهر احتمالية وترجيحية. كما أكدت النظرية النسبية ل"أينشتاين" نسبية المكان والزمان و الحركة، فجميع ظواهر الطبيعة متغيرة، النجوم والمجرات، وجميع أنساق الجاذبية للمكان الخارجي تتحرك دون انقطاع، وحركاتها لا يمكن وصفها إلا بالنسبة لبعضها البعض، وبالنسبة للزمان، فهو يتغير بتغير المكان والسرعة، فالزمان تابع للسرعة  و يتأثر بها، فإذا زادت السرعة تباطأ الزمان، مما يعني أن الزمان نسبي يتعلق بما إذا كان الجسم ثابتا أو متحركا و بمقدار سرعة حركته، بل إن تغير السرعة يؤدي إلى تغير الكتلة، و تكافؤ الكتلة و الطاقة...الخ، فكل شيء متغير ماعدا سرعة الضوء فهي ثابتة (حوالي 300 ألف كلم/ثا ) . إذن، فاللاحتمية أساس العلم.

ــ حل المشكلة:

        ونستنتج مما سبق تحليله أن تاريخ العلم أثبت بطريقة لا مجال للشك فيها مبدأ الحتمية، وخطأ تقديراته في كثير من الأحيان، فهاهي اللاحتمية تعرض نفسها على العلم اليوم في تطبيقاتها التكنولوجية المختلفة، إلا أنه يتوجب علينا تذكر أن لكل منهما تطبيقاتها الخاصة، فالحتمية تعمل في مجال الفيزياء الماكروسكوبية، واللاحتمية في مجال الفيزياء الميكروسكوبية و التكنولوجية، وهذا ما أكده "غاستون باشلار" عندما اعتبر مبدأ اللاتعيين في الفيزياء المجهرية ليس نفيا للحتمية، وفي هذا الصدد فمن الضروري بقاء مبدأ الحتمية المطلق قائما في العلم المعاصر، حتى إن كانت بعض النتائج المتحصل عليها أحيانا تخضع لمبدأ حساب الاحتمالات، حيث عبر "جيمس جونز" عن ذلك أصدق تعبير بقوله :" إذا نظرت إلى النظرية النموذجية لماكسويل [ أي النظرية الكهراطيسية القائمة على التفاعل بين الكهرباء و المغناطيس] تلمس الحتمية، أما إذا نظرنا إلى بحوث الذرة فلا تجد الحتمية".


تم عمل هذا الموقع بواسطة