ــ طرح المشكلة:
إن الحديث عن تاريخ المعرفة الإنسانية يضم ديناميكية العقل البشري بكل تساؤلاته المختلفة، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يلجأ إلى طرح الأسئلة في جميع ميادين الحياة، لذلك يقول سقراط: " طرح الأسئلة أمر عظيم الأهمية"، و انطلاقا من هذا القول نفهم بأن الأسئلة متعددة بتعدد مجالات التخصص التي تكون فيها (السياسة و الاقتصاد، الدين، التربية ...)، كما أن طرحها يختلف من الإنسان العالم إلى الإنسان العامي، الى الفيلسوف ...الخ، و ذلك باختلاف قدراتهم ومناهجهم و أهدافهم، وهذا يعني أن مجالي العلم و الفلسفة طرحت حولهما العديد من الأسئلة، و يمكن تعريف السؤال العلمي على أنه يهتم بدراسة الظواهر الطبيعية بواسطة المنهج التجريبي، أما السؤال الفلسفي فيدرس الموضوعات الميتافيزيقية ( أي ما وراء الطبيعة) عن طريق التأمل العقلي، و منه نطرح المشكلة و نقول: ما طبيعة العلاقة بين السؤال العلمي و السؤال الفلسفي، تناقض أم تكامل؟ و بصيغة أخرى ما الذي يميز بين العلم و الفلسفة؟
ــ محاولة حل المشكلة:
من أجل ضبط العلاقة و المقارنة بينهما يقتضي مني الأمر الإشارة إلى أوجه التشابه و الاختلاف و التداخل الموجودة بينهما:
و يمكن تحديد أوجه الاختلاف بين السؤالين العلمي و الفلسفي بداية بمسألة الموضوع، فإذا كان موضوع الفلسفة كما يقول الفيلسوف الألماني " مارتن هيدغر ": " هو موضوع مترامي الأطراف "، فهذا يعني أن السؤال الفلسفي يستند إلى موضوعاته و مباحثه الرئيسية المتمثلة في مبحث المعرفة، و الوجود و القيم ( المنطق – الأخلاق - الجمال)، و من هنا فالتساؤل في مجال الفلسفة يعد تنظيرا و تركيبا، و تعميما و تفسيران و هو سؤال مجاله البحث في المطلق، و العلل و الأسباب الأولى، فالفسفة تحاول الإجابة عن سؤال " لماذا " تحدث الأشياء أو الظواهر؟، إلى غير ذلك من المسائل الميتافيزيقية المعروفة كالحرية و العدالة و الأخلاق ... إلخ.
أما موضوع العلم، فيتمثل في الطبيعة المادية المحسوسة ( الجامدة أو الحية )، لأن السؤال العلمي ينطلق من السؤال " كيف " تحدث الظواهر الطبيعية؟، و هذا ما أكده " برتراند راسل " بقوله: " العلم هو ما تعرف و الفلسفة هي ما لا تعرف ".
أما فيما يتعلق بمسألة المنهج، فإذا نظرنا غلى المنهج الذي تتركز عليه الفلسفة فإنه يتضح لنا أن منهجها تأملي عقلي ينتمي على عالم الفكر و النظر، و هذا هو سر بقاء الفلسفة حية على الدوام، متجددة باستمرار، لأنه بحسب تعبير " كارل ياسبرس ": " الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة، و كل جواب فيها يتحول إلى سؤال جديد".
أما إذا نظرنا إلى السؤال في العلم، فإنه يرتكز على منهاج تجريبي استنتاجي و استقرائي، أي أنه عبارة عن خطوات فكرية و علمية ( ملاحظة – فرضية - تجربة) تبدأ بالفكر و تنتهي إلى إخضاع نتائج ذلك الفكر للتجربة قصد التأكد من صحته، و لعل هذا ما جعل علماء و فلاسفة مدرسة "الوضعية المنطقية" يعتبرون علم الفيزياء أرقى صورة للمنهاج التجريبي، لأنه يمتاز بالخصوبة و اليقين الرياضيين .
و فيما يخص الهدف، فإن الفلسفة تهدف للبحث عن الحقيقة و المعرفة الماوراء طبيعية، و هذا ما أكده الفيلسوف الفرنسي ميرلوبونتي بقوله: " الفيلسوف هو الباحث عن الحقيقة ".
أما العلم فيهدف إلى تقديم تفسير لظواهر الطبيعة و إبراز وحدتها، من خلال البحث عن أسباب الظواهر الطبيعية و الحيوية، و أهم نتائجها و الحلول المقترحة لخدمة أغراض الإنسان و السيطرة على الطبيعة، أضف إلى ذلك أن العلم يمثل حلقة من حلقات تاريخ العلم في حد ذاته، بخلاف الفلسفة التي لا تندرج ضمن دائرة العلوم، بل ضمن دائرة المعارف بشكل عام، كما أن الأحكام العلمية أحكام تقريرية لا تقرر اكثر مما هو موجود في الواقع الخارجي، أما الأحكام الفلسفية فبعضها معياري، و بعضها فردي في صميمه، لأنه يمثل مواقف ذاتية و أفكار شخصية تنأى عن كل موضوعية، إنها " التفكير الثنائي " على حد تعبير غابريال مارسيل.
كما أن الفلسفة تهتم بالوجود الكلي، أما العلم فيهتم بالجزئيات، لأن كل فرع فيه يقتطع لنفسه قطاعا تخصيصيا ضيقا يبحث فيه و يكشف عن قوانينه، و لهذا فالقوانين العلمية متفق عليها مثل: قانون بقاء و تحويل الطاقة الذي تم اكتشافه في القرن التاسع عشر من طرف ماير، جول، هيلمهولتس، و ينص هذا القانون على أن: الطاقات كلها ثابتة، و لا يمكن أن تنشأ الطاقة من لا شيء، أو تنقضي إلى لا شيء، لأن أنواع الطاقة ( ميكانيكية - مغناطيسية – كهربائية – حرارية – ضوئية - ذرية ) يتحول بعضها في الآخر، أما الإجابات في الفلسفة فهي مختلفة، و متناقضة و تعبر عن وجهة نظر فردية ( تعدد المواقف الفلسفية). على هذا الأساس فالعلم يعتم بقوة الكم أما الفلسفة تهتم بمقولة الكيف.
إن الاختلاف و التمايز بين الفلسفة و العلم لا يعني عدم وجود ما يجمع بينهما.
و يمكن إجمال أوجه الاتفاق (التشابه) بين السؤالين العلمي و الفلسفي من خلال التأكيد على أن كلاهما من منشآت الفكر البشري ذاته ( الإبداع الذهني للإنسان )، كما أنهما يختصان بالبحث في إمكانية قيام معرفة ما عن الوجود بمختلف أشكاله و مظاهره، على الرغم من اختلاف نظرة كل واحد منهما للوجود، و لذا كل منهما يشكل حلقة واضحة المعالم في تاريخ الوعي البشري بصفة عامة، تاريخ نشاط الناس و تاريخ وعيهم المعرفي، بل أيضا تاريخ الناس الذين ينشؤون حضارة، مما يعني أن كلاهما مظهرا من مظاهر الحضارة، و هذا ما أكده رينيه ديكارت بقوله: " إن حضارة كل أمة تقاس بمدى شيوع التفلسف الصحيح فيها "، كما أنهما يمثلان مسألة من مسائل البحث المعرفي، سواء كان هذا البحث علميا أم فلسفيا تحليليا ( نقد و دراسة أشكال و مناهج العلوم ).
أضف إلى ذلك أن كلاهما يسعيان للبحث عن الحقيقة و المعرفة لغرض استباق النتائج، كما أنهما ينتميان إلى مجال الأسئلة الانفعالية التي تثير القلق الفكري و التوتر النفسي ( الدهشة و الإحراج)، و لهذا فكلاهما من اختصاص رواد الفكر من علماء و فلاسفة، كما أنهما لا يستطيعان أبدا الوصول إلى حقائق يقينية صادقة صدقا مطلقا و نهائيا ( أي أن حقائقهما نسبية متغيرة)، و قد أمكن تحقيق هذه النتيجة بعد تحليل دقيق لأزمتي الرياضيات و الفيزياء النيوتينية، و قد عبر برتراند راسل عن اللايقين في مجال الفلسفة بقوله: " إن قيمة الفلسفة إنما تلتمس في ما هي عليه عدم اليقين بالذات "، زد على ذلك أن كلاهما يتجاوز المعرفة العامية السطحية إلى التعمق في تحليل القضايا و الظواهر.
إن وجود نقاط اتفاق بين السؤالين العلمي و الفلسفي يستدعي بالضرورة و جود أوجه تداخل بينهما.
و فيما يتعلق بأوجه التداخل بين العلم و الفلسفة، فرغم وجود اختلاف بين السؤالين إلا أنه لا يبرر القطيعة المعرفية ( الإبستيمولوجية ) القائمة بينهما، مما يعني أن هناك ترابطا و تداخلا بين السؤالين العلمي و الفلسفي، فكما كانت الفلسفة في الماضي تضم في طياتها مختلف العلوم، لأنه كما قال ديكارت:" الفلسفة أم العلوم "، فكذلك مازالت الفلسفة تقدم أسسا و معاييرا للعلم – على الرغم من انفصال العلوم عن الفلسفة في العصر الحديث – في إطار علاقة التداخل بينهما .
من هذا المنطلق فالجانب العلمي يخدم الجانب الفلسفي من خلال تفديم نموذج لليقين – و هو القانون العلمي – يحتذى به نسبيا، لأنه كما يقول لويس ألتوسير: " لكي تولد الفلسفة أو تتجدد نشأتها لابد من وجود علوم ".
أما الجانب الفلسفي فيخدم الجانب العلمي بآلية الإبستيمولوجيا ( فلسفة العلوم ) التي تقدم دراسة نقدية لمبادئ العلوم و فروضها و نتائجها، و بواسطة الميتودولوجيا ( علم المناهج) التي تقدم فحصا دقيقا لمناهج العلوم ذاتها، و هذا ما أكده عالم الطبيعيات الشهير لامارك بقوله: " كل علم يجب أن تكون له فلسفته ... فهو لا يتقدم إلا بهذه الواسطة "، مما يعني أن النقد الفلسفي لمختلف العلوم و مناهجها يساهم في تقدم العلوم منهجيا و معرفيا، و هذا ما ينتج عنه تقدم الفكر الفلسفي نفسه، فكما يقول ميشال فوكو: " إن بقاء الفلسفة مرهون بمدى توجهها النقدي ".
إذن فالعلاقة بين السؤالين العلمي و الفلسفي تشابك و احتواء و تضمن، لأن كلاهما يستعين بالآخر مما يعني أنهما متداخلان و مترابطان .
و من وجهة نظري الشخصية فإن العلاقة بين السؤال العلمي و السؤال الفلسفي تداخل معرفي و منهجي، لأن هناك تأثير متبادل بينهما، فالفلسفة تعتمد على العلم لأن السؤال الفلسفي ينطوي على جانب علمي بدليل ظهور مذاهب فلسفية اعتمدت على أسس علمية مثل: الماركسية، الوضعية المنطقية ...إلخ، و من هنا كانت العلوم هل الأساس الذي قامت عليه مختلف الفلسفات عبر التاريخ، بل إن تجدد الفلسفة كان بسبب تطور العلوم، خاصة منذ العصر الحديث إلى يومنا هذا.
كما أن العلم يعتمد على الفلسفة، لأن السؤال العلمي ينطوي على أبعاد فلسفية بدليل ظهور فلسفة العلوم، و مناهج العلوم...، فالفيلسوف هو الذي يوجه العلم من الناحية المنهجية و المعرفية من خلال التساؤل المستمر، و تقييم و نقد العلوم من أجل تحقيق التطور العلمي و الابتعاد عن الأخطاء، فجميع العلوم كانت نتاجا للفكر الفلسفي، لأن التساؤل الفلسفي يمهد لظهور معارف و نظريات علمية .
على هذا الأساس فالوظيفة المتبادلة بينهما تبين صعوبة الفصل بين العلم و الفلسفة.
ــ حل المشكلة:
بناءا على تحليلنا السابق نستنتج أن الاختلاف بين السؤال العلمي و السؤال الفلسفي لا يبطل وجود علاقة وظيفية بينهما، و هي تكامل و اتصال و ترابط، فكلاهما يكمل الآخر معرفيا و منهجيا، فالسؤال الفلسفي مقولة مفاهيمية تعبر عن معطيات العصر السائدة المتمثلة خاصة في الثورات العلمي، و التقدم السريع في مختلف مجالات الحياة، و الكشف عن معوقات التقدم العلمي و المعرفي و الحضاري، و ما ينشأ عن ذلك من قيم متجددة تعمل على مواكبة العلم و مسايرته في تقدمه، مما جعل الفيلسوف و الرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه يقول: " إن العلم خلال مسيرته يظهر و كأنه يقضي على النظريات الفلسفية، إلا أن هذه النظريات تعود و تظهر من جديد ".