ــ طرح المشكلة:
مما لا شك فيه أن، الإنسان كائن اجتماعي بطبعه كما يقول أرسطو، و هذا يقتضي منه ضرورة التعايش الاجتماعي و تشكيل مجموعة من العلاقات قد تكون ايجابية ( انجذاب ) أو سلبية ( تنافر)، فكل فرد يسعى إلى التعبير عن ذاته و إثبات وجودها داخل المجتمع، و لما كانت " الذات " هي النفس أو الجوهر الثابت القائم بذاته، فإن "الغير" هو الآخر المختلف عن الذات و المستقل عنها، ولقد أثارت المشكلة الفلسفية المتعلقة بأساس معرفة الذات جدلا و اختلافا واسعا بين الفلاسفة و المفكرين، فهناك من يرى أن أساس الذات متوقف على الوعي الذاتي الفردي فقط، و نقيضا لذلك هناك من يعتقد أن معرفة الذات تتأسس على المغايرة و المناقضة، و منه نطرح المشكلة و نقول: هل يعتبر الوعي الذاتي أساس معرفة الذات دائما؟ و بصيغة أخرى: إذا كنت أمام موقفين متعارضين أحدهما يرى أن أساس معرفة الذات يتمثل في الوعي الذاتي، و الآخر يؤكد أنه متوقف على الغير، فما موقفي من هذه المشكلة التي أعيشها يوميا ؟
ــ محاولة حل المشكلة:
يؤكد فلاسفة الموقف الأول أمثال ( سقراط – ديكارت – مين دي بيران – فرويد – هوسرل - سارتر) أن معرفة الذات تتأسس على الوعي الذاتي و الفردين أي أن الذات تعرف ذاتها بذاتها، لأن الشعور بالذات هو لحظة واعية و تأملية و إدراكية، فلا يمكن لأحد أن ينكر أنه لا يعرف ما يفعل و لا يعي ما يقوم به،لأن كل ذات تعي ذاتها، مما يعني أن الذات تعرف ما يحدث فيها من انفعالات، و ما يصدر عنها من سلوكات، لأن الوعي هو الذي يعبر عن حقيقة الذات، فالوعي يعتبر ميزة جوهرية في الذات و هو الأساس الذي تتوقف عليه معرفة الذات لذاتها، فهو المصاحب لها طيلة وجودها، و أي غياب للشعور أو الوعي يعتبر غيابا للذات أو الأنا و انعدامها كما يقول سقراط: اعرف نفسك بنفسك. أما رينيه ديكارت أثبت فكرة الوعي الذاتي في فكرة الكوجيتو الشهيرة: " أنا أفكر إذا أنا موجود "، مما يعني أن الذات أو الأنا تتميز بالتفكير الذاتي، و هذه الذات لا تنقطع عن التفكير ( الوعي – الشعور – التأمل الذاتي) إلا إذا انعدم وجودها، فكما يقول: " فالشعور هو الذي به أعلم أنني موجود، و أن الغير موجود و أن العالم موجود"
و لقد أكد الفيلسوف الفرنسي مين دي بيران نفس الموقف بقوله: " قبل أي شعور بالشئ فلا بد من أن للذات وجود "، مما يعني ضرورة وجود الذات الواعية أولا قبل وجود الغير. أما سيغموند فرويد فقد أكد أن التخلص من اكراهات المجتمع ( الغير) هو معرفة للذات أو الأنا في تحقيق رغباتها اللاشعورية، و خاصة الغريزية، و بالتالي فالغير يشكل عائقا حقيقيا للذات .
كما أثبت جون بول سارتر أن الوعي الإنساني الكامل ( الوجود الذاتي الفردي) يسعى لتكوين ماهيته من خلال الاختيار الحر، و تحمل مسؤولية ذلك الاختيار، و هذا ما أكده بقوله: " لا يوجد غيري فأنا وحدي الذي أقرر الخير و أخترع الشر "، و هذا يعني أن الغير ليس شرطا ضروريا في معرفة الذات.
نفس الطرح أكده إدموند هوسرل عندما بين أن الذات يجب أن تكون واعية لذاتها حتى يمكنها وعي الأشياء و الموضوعات، و في هذا السياق يقول: "إن الشعور هو دائما شعور بشيء ما".
و يمكن في الشأن الإشارة غالى مدرسة الاستبطان ( التأمل الذاتي ) في علم النفس التي أكدت أن الإنسان هو الذات العارفة، و هو الموضوع المعروف.
إذن فالوعي هو أساس معرفة الذات بالضرورة .
صحيح نسبيا ما قدمه فلاسفة الموقف الأول، لكن تأسيس معرفة الذات من خلال الوعي الذاتي قد يؤدي بالذات إلى نوع من المبالغة و التضخيم و الانطواء و فصل الذات عن الغير، كما أن الوعي الذاتي قد يكون مجرد انطباعات و أحكام خاطئة لا تعبر عن حقيقة الأنا الفردية، لأنه من الممكن التعرف على إنسان مريض نفسيان لكنه يعتقد أنه شخصية سوية، مما يعني أن الذات لا تشاهد ذاتها بذاتها، بل تحتاج إلى الغير، أضف إلى ذلك كما يقول سبينوزا: " أن الأفراد يعتقدون أنهم أحرارا لجهلهم بالأسباب الحقيقية المتحكمة فيهم "، أي أن الذات لا تتمتع بالحرية بل تخضع لحتميات و قيود، كما أثبتت نظرية اللاشعور في العلم الحديث بأنه توجد أمور غامضة في الذات لا يستطيع الوعي أو التأمل الذاتي الوصول إليها إلا بالعلاجي النفسي من طرف الغير( العالم النفساني)، كما أن وعينا بذواتنا قد يكون مخالفا لحكم الغير علينا، و هل يمكن إنكار الغير في معرفة الذات و هو يعتبر مقوما أساسيا ( شرطا ضروريا) في العلاقات الاجتماعية؟
وعلى النقيض يؤكد فلاسفة الموقف الثاني أمثال ( جورج باركلي – فريديريك هيغل – هنري برغسون – ميرلوبونتي – ماكس شيلر) أن أساس معرفة الذات متوقف على المغايرة و التناقض، لأن وجود الذات متعلق بالآخرين، فالغير شرط ضروري لكي تعي الذات ذاتها.
فقد أكد جورج باركلي أن أساس التعرف على الذات يتحدد من خلال الغير، لأنه يشاركنا في هذه الحياة تجاذبا ( حوار و تسامح)، مما يؤدي بالذات غلى مقارنة نفسها بالآخر لاستنتاج التمايز و الاختلاف بين الأنا و الغير، أي عن طريق المقارنة بين أفعال و انفعالات و أفكار الذات مع سلوكات و انفعالات و أفكار الغير، و هذا يعني أن الغير قد يكون سببا في تنمية وعي الذات لذاتها، كما أن الأنا ليس منغلقا على نفسه بل يعيش مع الغير، و هذا يقتضي التفاعل معه و الاعتراف به كآخر مغاير لنا، و بالتالي فالغير و الذات تربط بينهما علاقات اجتماعية قائمة على التسامح و المشاركة.
أما الفيلسوف الألماني فريديريك هيغل فقد أكد أن إدراك حقيقة الذات و معرفتها قائم على العلاقة الجدلية و التناقض بين ألانا و الآخر، لأن كل موضوع عنده يعتمد على نقيضه ثم الجمع بينهما، أي الفكرة ثم نقيض الفكرة ثم المركب بينهما، مما يعني أن الشعور بالأنا يقابله الشعور بالغير، و عندئذ سوف يتغلب أحدهما على الآخر بالضرورة من خلال الصراع القائم بينهما، و هذا ما يجعل كل منهما يحاول أن يفرض نفسه على الآخر، فالعبد يخدم السيد و السيد يخدم العبد، و من هنا فكلاهما يدرك حقيقة نفسه، و قيمة ذاته و إثبات وجوده أمام الآخر باعتماد الصراع بكل أنواعه.
كما أن هناك أساس أفضل في معرفة الذات لذاتها يتمثل في التواصل بين الأنا و الغير، لأنه قائم على الوعي بالمماثلة و التشابه بين الذات و الغير، و الإحساس المشترك بضرورة التعايش التواصلي حاضرا و مستقبلا، و ذلك بالاعتماد على اللغة كوسيلة للتواصل و التوافق و الحوار بين الأنا و الغير.
و قد أكد هذه الأطروحة هنري برغسون الذي اثبت أن اللغة وظيفتها التواصل بالغير من خلال تبادل الأفكار المشتركة بين الذات و الغير في عالم الأشياء المادية. أما موريس ميرلوبونتي فقد أكد أن التواصل مع الغير يتم عن طريق الوجود معا ( العيش المشترك).
و فيما يتعلق برأي ماكس شيلر فقد أكد أن المشاركة العاطفية و الحب هما الوسيلة المعبر عن التواصل الحقيقي بالغير من خلال الشعور بمشاعر الغير الايجابية أو السلبية، و هذا يعني أن التواصل بين الأنا و الغير هو اعتراف كلاهما بالآخر دون إلغاء. إذن فمعرفة الذات تكون من خلال الآخرين بالضرورة.
إننا لا ننكر مصداقية ما أكده أنصار الموقف الثاني، لكن تأسيس معرفة الذات من خلال المغايرة و التناقض، قد يؤدي إلى ربط الأنا بالغير و دمجها معه، و هذا نفي و إقصاء للذات المستقلة و الفردية المتميزة، كما أن تأسيس العلاقة بين الأنا و الغير في إطار التناقض و الصراع هو نفي للآخر، و معاملته بمنطق القوة الذي لا يتناسب مع كرامة الإنسان، أضف إلى ذلك أن الغير قد يشكل عائقا حقيقيا أمام الذات في معرفة ذاتها من خلال الوعي، و لأن التناقض ( التنافر ) وسيلة لا أخلاقية بين الذات و الغير قد يؤسس لمقولة " الصراع من أجل البقاء "، و هذا ما يؤدي إلى العنف و الأنانية، كما أن الذات قد تتفاعل مع الغير عن طريق التواصل و التكامل و التعايش السلمي، و هذا ما أكد المفكر المغربي المعاصر محمد عزيز لحبابي في قوله:
" إن معرفة الذات تكمن في أن يرضى الشخص بذاته كما هو ضمن هذه العلاقة: ( الأنا) كجزء من " النحن " في هذا العالم ".
و تركيبا لهذا الجدل الفلسفي بين الموقفين( التوفيق بين الرأيين)، فإن أساس معرفة الذات يتوقف على الوعي الذاتي الفردي من جهة، و على المغايرة و التناقض من جهة أخرى، مما يعني أن معرفة الذات قائمة على الوعي بالذات و الغير معا، لأن شعور الذات بذاتها إثبات لها، كما أن الغير يشكل وجودا ضروريا لترقية الشعور بالذات التي تعي ذاتها بواسطته كأنا ووعي و حرية.
و على هذا الأساس فالشعور بالأنا يقابله الشعور بالغير بالضرورة، و هذا ما يجعلنا نؤكد: " أن معرفة الذات تكون بين الأنا و الغير معا ".
و من وجهة نظري الشخصية، فإن أساس معرفة الذات هو الوعي الذاتي، لأن شعور ذاتي بذاتها هو معرفة لهخا، كما أن الأنا يمثل إشارة للذات التي تفكر، و تشعر و تتأمل ...الخ، و الدليل على ذلك كما يقول سقراط: " الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف أي شيئا" ما عدا كونه يعرف ذاته .
أما جون بول سارتر فقد أكد على ضرورة إقصاء الغير و عزله لقوله: " الآخرون هم الجحيم "، مما يعني أن العير يشكل عائقا أمام ذاتي المتميزة، و يقد سارتر مثال النظرة ليثبت أطروحته، فحينما يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية و تلقائية و حرية، أما عندما ينتبه إلى أن الغير يراقبه و ينظر إليه تتجمد حركاته و أفعاله، وز تفقد حريتها و عفويتها و تلقائيتها، و هذا مثال واقعي يعيشه كل فرد منا، أضف إلى ذلك أنني في علاقاتي الاجتماعية قد أكون انطوائيا و انعزاليا بسبب المشاكل التي تصدر عن الآخرين، و بالتالي فالأفضل لي أن أدرك منطق الذات لأعرف ذاتي كما هي، و أتعايش مع أوضاعي الخاصة قبل أن يختارها الغير و يعرفها، و هذا ما يتماشى مع قول الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد: " اختر ذاتك قبل أن يختارها لك الآخرون " .
ــ حل المشكلة:
و نستنتج من كل ما سبق تحليله أن أساس معرفة الذات ثنائي، الأول يتعلق بالوعي الذاتي و الثاني بالغير، فالعلاقة بين الذات و الغير يجب أن تخضع لثقافة التعايش و الاحترام المتبادل و التقدير و المحبة لكن بشرط الاحتكام للقانون و الأخلاق و العدالة و قيم التسامح، لأن الوعي الذاتي و العمل على تقويتهيكون بإنتاج مشترك مع الغير الذي يمنح الذات التحفيز ة التواصل الأصيل و تجاوز المآسي و المشاكل .
و على هذا الأساس لا بد للإنسان أن يتحلى بإنسانيته بوعي و عقلانية، و يقبل الاختلاف و يدافع عنه لأنه كما يقال الاختلاف رحمة، أو كما تقول المنظرة السياسية الألمانية حنا أرندت:
" فالعملية الفكرية لا تكون حوار بيني و بين نفسي . بل تجد نفسها دائما ... في تواصل استباقي مع آخرين أعلم أنني يجب في نهاية المطاف أن أتفق معهم ".
و ضمن هذا السياق يمكن القول أن مشكلة الشعور بالأنا و الشعور بالغير مازالت موضع بحث و دراسة بين الفلاسفة و المختصين، إلا أن الوعي الذاتي أثناء معرفة الذات هو تشكيل للأنا الفردي، و أثناء معرفة الغير هو تشكيل للأنا الجماعي، أي تنظيم ثنائي يكون ذاتا مفكرة و جماعة واعية، مما يجعلني أقول: " أفسر ذاتي بذاتي، لكن لا أستطيع أن أفصل ذاتي عن الآخرين ".