ــ طرح المشكلة:

        تعتبر مشكلة الحرية من أهم المشكلات الفلسفية التي اهتم بها الفلاسفة عبر تاريخ الفلسفة، لأنها مرتبطة بالإنسان في كل مكان و زمان، بل إن تاريخ الإنسانية حافل بشواهد النضال من أجل قضايا الحرية باعتبارها أطروحة فكرية و ميتافيزيقية و مشكلة عملية وواقعية متضمنة في حياتنا اليومية، لأنه لا معنى لفرد و لا كرامة له إلا بالحرية، هذه الأخيرة التي عرفها الفيلسوف الفرنسي فولتير بقوله: " تتوفر الحرية بالنسبة لي عندما أفعل ما أريد "، و لقد أثارت مسألة الحرية بين الإثبات (الاختيار) و النفي (الجبر و القيد) جدلا و اختلافا و تناقضا كبيرا بين الفلاسفة و المفكرين، فهناك من يرى أن الإنسان يتمتع بالحرية في أفعاله و تصرفاته، ونقيضا لذلك فهناك من يؤكد أن سلوكات الإنسان تخضع لقيود و حتميات متعددة، مما يعني أنه مقيد و مجبر، و منه نطرح المشكلة و نقول: هل ممارستي للأفعال و التصرفات دليل على حريتي؟ و بصيغة أخرى: إذا كنت أمام موقفين متعارضين أحدهما يقول أن الإنسان حر ، و الآخر يبين أنه مقيد، فما هو موقفي من هذه المشكلة الفلسفية؟

ــ محاولة حل المشكلة:

        يؤكد فلاسفة الموقف الأول أمثال: ( أفلاطون – القاضب عبد الجبار المعتزلي – ديكارت – كانط – برغشون – سارتر – مونتاني – بوسوي) أن الإنسان يفعل ما يشاء و يريد لأنه حر حرية مطلقة انطلاقا من قدراته و إرادته على الاختيار بين الممكنات، و هذا ما أكده أفلاطون عندما اعتبر حرية الاختيار مبدأ مطلق و ثابت لا يفارق الإنسان في الزمان و المكان.

أما أنصار مدرسة المعتزلة فأكدوا أن الإنسان يختار بين الفعل و الترك لأنه حر، و أفعاله صادرة عنه، و يقول أحد أنصارها: " إن الإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي و الصوارف ( أي الأسباب)، فإذا أراد الحركة تحرك، و إذا أراد السكون سكن "، و مادام الإنسان حر فهو مسؤول عن أفعاله و تصرفاته و كما يقول القاضي عبد الجبار: " إن هذه الفكرة ( أي القدرة على الفعل) بشكل حقيقي تؤكد حرية فعل و تصرف الإنسان ".

و في نفس السياق بين ديكارت أن لكل فرد الحرية الكاملة في التغبير عن إرادته الحرة من خلال تجربته اليومية الذاتية التي يعيشها، لذلك يقول: " إننا متأكدون من الحرية ... إذ لا شيء نعرفه بوضوح أكثر مما نعرفها "، و هذا يعني أن الحرية عند الإنسان مثل البديهية في الرياضيات، لذلك لا يمكن الاستغناء عنها، و يقول أيضا: "أنا أفكر إذا إنا موجود، و ما دمت موجود فأنا أشعر، و ما دمت أشعر فأنا حر " .

أما الفيلسوف الألماني كانط فقد اعتبر الحرية مسلمة العقل العملي، و أساس الواجب الأخلاقي و هذا ما أكده في قوله: " يجب التسليم بالحرية من أجل تأسيس الأخلاق "، لأن الإنسان يتمتع بالحرية لهذا فالشرير – مثلا – يختار أفعاله بإرادته الحرة العاقلة، و بالتالي فهو مسؤول، و كما يقول: " إذا كان يجب عليك فأنت حر ".

و إذا تحدثنا بلغة علم النفس فإن برغسون أكد أن الحياة النفسية الشعورية المتجددة و الدائمة لكل فرد دليل قاطع على أننا أحرار، فمادام الفرد يشعر نفسيا فهو يمارس حريته، و هذا ما أكده في قوله: " الفعل الحر يصدر في الواقع عن النفس بأجمعها ".

كما أثبت جون بول سارتر أن جوهر الإنسان هو الحرية التي بواسطتها يصنع نفسه و يحقق ذاته و وجوده، مما يعني أن وجود الإنسان يعني وجوده حرا في الواقع فكما يقول: " من حق الفرد أن يختار الحياة التي يعتقد أنها الأفضل "، إلا أن هذا الاختيار مرتبط بال مسؤولية انطلاقا من مقولة الوجوديين الشهيرة: " الحرية مسؤولية ".

و غير بعيد عن هذا الموقف يقول الفيلسوف الفرنسي بوسوي: " ليست لي قوة غير إرادتي ... من هنا أشعر شعورا واضحا بحريتي" .

كما أثبت لنا أيضا الله عز وجل في كتابه العزيز ( القرآن الكريم) فكرة الحرية من خلال بعض الآيات، حيث يقول عز و جل: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره "، و يقول أيضا: " و من شاء فليؤمن، و من شاء فليكفر "، بل إن الثورة الفرنسية قامت على مبدأ رئيسي من مبادئها الثلاثة ألا و هو الحرية .

إذن فالإنسان يتمتع بالحرية في ممارساته اليومية.

        إننا لا نستطيع إنكار الحرية، لكن لا وجود لحرية مطلقة لأن الواقع الإنساني مليء بالحتميات و العوائق و القيود المتعددة كالعولمة مثلا، كما أن الشعور النفسي بالحرية يعد خداعا نفسيا،لأن الفرد يريد ممارسة الحرية كسلوك عملي ليحقق ذاته، أما الحرية عند سارتر فهي متشائمة تتميز بالقلق و المخاطرة، و كأنها نوع من الانتحار، كما أنه جعل الإنسان محكوم عليه بالحرية، و كأنها قانون حبري و ضرورة حتمية، أضف إلى ذلك لأن الحرية المطلقة تؤدي إلى الفوضى و العنف عند برتراند راسل، و انتشار العبودية عند أفلاطون، بل كيف نفسر الآيات و الأحاديث النبوية الشريفة التي تنص على القضاء و القدر خيره و شره؟، و متى كانت أفعال الإنسان الحرة خارجة عن خلق الله و قدرته و مشيئته؟، و إذا كان الإنسان حرا لماذا لا يستطيع مواجهة مصيره ألا و هو الموت و الفناء؟

        و على النقيض يؤكد فلاسفة الموقف الثاني ( أنصار الحتميات و القيود) أمثال ( إميل دوركايم – سيغموند فرويد – جهم بن صفوان – سبينوزا - أنجلز) أن الإنسان لا يملك حرية الاختيار، لأنه مجبر و مقيد و مسيرو يخضع لحتميات و قيود و قوانين كونية لا يمكنه مواجهتها، و أول هذه الحتميات الحتمية الفيزيائية التي يعتقد أنصارها أن الإنسان جزء من الطبيعة، لذلك يخضع لنفس قوانين الطبيعة سواء من الوجهة البيولوجية : " إننا تحت رحمة غددنا الصماء "، أو من الوجهة الفيزيائية الكيميائية حيث تتحكم فيه عوامل المناخ و الجغرافيا و الضغط الجوي و الجاذبية ...، و بالتالي يمكن التنبؤ بسلوكاته و تصرفاته.

أما الحتمية الاجتماعية فتتمثل في خضوع الفرد لعادات و تقاليد و قوانين مجتمعه التي لا يجب الخروج عنها، و كل من يحاول التمرد على قوانين المجتمع ( مثل سقراط في اليونان القديمة و غاليلي في العصر الحديث) يقابل بالعقوبة و الرفض من طرفه، فكما يقول إميل دوركايم: " حين يتكلم ضميرنا فالمجتمع هو الذي يتكلم فينيا ".

و فيما يتعلق بالحتمية الدينية التي تتضمن شرائع دينية تتحكم في تصرفات و أفعال الفرد، فإن كل فرد له دين معين سواء كان سماويا أو وضعيا يجب أن يتقيد بقوانينه.

أما بالنسبة للحتمية النفسية التي يعتقد أنصارها أمثال سيغموند فرويد فتتمثل في أن الإنسان يخضع لقوانين نفسية كالرغبات و الأهواء و الميول و العواطف و الغرائز ...الخ، و كلها تعني أن أفعال الإنسان مقيدة، بدليل أن المدرسة السلوكية أكدت أن أفعال الإنسان مقيدة بالدوافع و المنبهات كمنعكسات شرطية، إضافة إلى حتميا أخرى كالحتمية السياسية و الثقافية و الاقتصادية ... الخ.

كما أكدت المدرسة الجبرية أن الله هو الفاعل و القادر فقط و ليس الإنسان، لأن الفرد مسير من طرف الله من خلال القضاء و القدر الإلهيين، لذلك فالله هو الذي يحدد ما كان، و ما هو كائن و ما سيكون لكل أفعال الإنسان، و هذا ما أشار إليه أنصار فرقة الجهمية عندما اعتبروا الإنسان مجبر، لأن الله هو خالق أفعاله، و هذه الأفعال تنسب إلى العباد بحكمته تعالى قضاءا و قدرا، و يقول جهم بن صفوان: " أنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، و أنه الفاعل و أن الناس غنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز ".

كما أكدت فرقة الأشاعرة في نظرية الكسب أن الله هو خالق الأفعال و الإنسان يكسبها فقط، فإن كسب خيرا أثابه عليه و إن كسب شرا عاقبه عليه، و هنا بذات يكون الإنسان مسؤولا أما الله الذي يقول في كتابه الكريم: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا "، و يقول أيضا: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء، و تهدي بها من تشاء" .

كما بين سبينوزا أن الحرية مجرد وهم بقوله: " إن الناس واهمون إذ يعتقدون أنفسهم أحرارا لجهلهم بالأسباب الحقيقية المتحكمة فيهم". 

أما أنصار الطرح الوضعي العلمي أمثال ( كارل ماركس و أنجلز) فقد أكدوا على ضرورة التحرر من القيود و الحتميات عن طريق العمل و بمختلف المعارف و الانجازات العلنية و الاختراعات التقنية، فكما يقول أنجلز: " كل تقدم في الحضارة خطوة نحو الحرية "، أي أن ديناميكية الحضارة هي محاولة التخلص من القيود و الحتميات لبلوغ الحرية.

إذن فالإنسان مجبر و مقيد لا محالة .

         إننا لا نتجاهل هذه القيود و الحتميات، لكن إذا كان الإنسان خاضعا للحتمية الفيزيائية فهل يعقل أن نساوي بينه و بين الجماد؟، و إذا كان الإنسان مقيد و مسير من طرف الله فلماذا يحاسب؟، كما أن الواقع أثبت أن الإنسان يفعل ما يشاء و ما يريد، إذا فهو حر، أضف غلى ذلك أن تفسير أفعال الإنسان من خلال فكرة القضاء و القدر هو دعوة للتكاسل و التواكل و تعطيل للأخذ بالأسباب، و لأن أنًار الطرح الوضعي اعتبروا العمل وسيلة للتحرر فقد تجاهلوا الحتمية المادية التي تنتجها الحضارة نفسها، بحيث يصبح الإنسان عبدا للمادة و هذا ما نعيشه اليوم، و هل يمكن رفض الحرية الإنسانية و الإنسان ولد حر؟

        و تركيبا لهذا الجدل الفلسفي بين الموقفين ( التوفيق بين الرأيين) يجب القول بأن الحرية تبقى نسبية دائما، لأنه يمكن القول أن أفعال الإنسان تتمتع بالحرية من جهة، و من جهة أخرى فأفعاله تخضع لحتميات و قيود لا يمكن إنكارها، و هذا ما نجده في القرآن الكريم الذي يقر بالاختيار و الجبر معا، و المدرسة الرواقية في الفلسفة اليونانية التي أكد فلاسفتها أن الإنسان يعيش عالمين: عالم داخلي (معنوي و نفسي) قائم على الحرية، أي أن الفرد حر أمام ذاته، و عالم خارجي ( مادي واقعي ) قائم على الضرورة و الحتمية، أي أن الفرد مقيد أمام ظروف الواقع لأنها هي التي تتحكم فيه.

كما نجد أيضا ابن رشد بموقفه التوفيقي ينظر للحرية على أنها مبنية على أساسين: القدرة النفسية على القيام بالفعل من جهة، و القوانين و الحتميات الخارجية من جهة أخرى، و العلاقة بينهما سببية.

         و من وجهة نظري الشخصية فإن الإنسان يتمتع بالحرية في أفعاله و تصرفاته، لأنه يستطيع أن يقوم بسلوك جيد (أخلاقي) أو سلوك سيء ( غير أخلاقي)، و الدليل على ذلك كما يقول سارتر: " فنحن محكوم علينا بالحرية "، و يقول أيضا: " فالسلوك الذي يختاره الإنسان إنما يعيشه و يشعر به "، مما يعني أن الحري شعور و ممارسة معا.

و ضمن نفس السياق يقول ديكارت: " إننا متأكدون من الحرية و من اللامبالاة الموجودة فينا ".

و من خلال الدليل القرآني يقول الله سبحانه و تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت "، و لهذا فالإرادة الحرة هي مصدر أفعالنا و سلوكاتنا دائما، و من هنا نتذكر المقولة الشهيرة لـ علي بن أبي طالب التي يقول فيها:

 " لاتكن عبدا لغيرك و قد خلقك الله حرا ".

و على سبيا المثال لا الحصر جاء في المادة (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10/12/1984) أن: " لكل شخص الحق في حرية التفكير و الدين و الضمير "، كما نصت المادة (01) من إعلان حقوق الإنسان للثورة الفرنسية أن: " الأفراد يولدون و يعيشون أحرارا متساوين "، كما جاء في المادة الثالثة (03) من إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر عن الثورة الفرنسية (1789) أن: " هدف كل جماعة سياسية هو المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية ... هذه الحقوق هي الحرية ... ".

ــ حل المشكلة:

         مما سبق تحليله نستنتج أن مشكلة الحرية كانت و مازالت قضية إنسانية عالمية معقدة ليس لها جوابا مقنعا، لأنها مرتبطة بإنسان هذا الكائن الغامض و المعقد، إلا أنها تبقى مجرد أمنية تتحقق من خلال العلم و العمل و الأخلاق و عن طريق محاولة التحرر من القيود و الحتميات، و بالتالي فالإنسان في تصرفاته و أفعاله واقعيا يعتبر حرا في بعض الأحيان، كما لا يمكن القضاء نهائيا على القيود و الحتميات في أحيان أخرى، مما يجعله مقيدا و هذا ما يجعلنا نقول: " المسؤولية واجب في دولة القانون فقط".

و أخيرا، إن الحرية تتحقق تدريجيا لأنها لا تعطى بل تصنع بالكفاح و النضال في إطار القانون فقط، و هذا ما أكده الفيلسوف الفرنسي مونتاني بقوله: "إن كل معركة للحرية تنقلب ضدها، فمعركة الحرية لا تعرف النهاية ".


تم عمل هذا الموقع بواسطة